تُعقَد في القاهرة، الثلاثاء المقبل، قمّة عربية استثنائية، ربّما تكون الأخطر في تاريخ النظام العربي الرسمي، لأن هدفها تقديم خطّة بديلة لخطّة أميركية تقضي بالاستيلاء على قطاع غزّة، وإعادة توطين سكّانه في مصر والأردن.
ولأن نجاح الخطّة الأميركية ستترتّب عنه حتماً تصفية القضية الفلسطينية، وتعريض أمن مصر والأردن لأخطار جسيمة، فليس من المُستبعَد أن يؤدّي فشل القمّة في تقديم الخطّة البديلة إلى انهيار أسس (ومبرّرات) وجود النظام العربي نفسه.
لفهم خطورة التحدّيات التي تواجه هذه القمّة، ينبغي أن تدرك الدول المشاركة فيها أن المطلوب منها ليس مجرّد تقديم خطّة لإعمار قطاع غزّة من دون تهجير سكّانه، فهذه مسألة سهلة وميسورة من الناحية الفنّية، وإنما إعمار قطاع غزّة المدمّر بطريقة تؤدّي إلى إخراج قادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) منه ونزع سلاح جميع فصائل المقاومة الفلسطينية.
ولأن مصر والأردن أعلنا رفضهما القاطع تهجير الشعب الفلسطيني قسراً، ناهيك بإعادة توطينه في أراضيهما، ودعمت جميع الدول العربية هذا الموقف، وأثبت الشعب الفلسطيني رفضه القاطع مغادرة وطنه طوعاً أو قسراً،
فقد أصبحت القمّة العربية مطالبةً بالردّ على كرة النار التي قذف بها ترامب إلى ملعبها، بالتنسيق الكامل مع رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، وبدعم مطلق من اليمين الأكثر تطرّفاً في تاريخ إسرائيل. فكيف ستحلّ القمّة هذه المعضلة الشائكة، الإعمار في مقابل نزع سلاح المقاومة الفلسطينية؟
على القمّة المقبلة أن تؤكّد أن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة هي السبيل الوحيد لإقناع الفصائل المسلّحة بأنه حان الوقت لإلقاء سلاحها
تدّعي إسرائيل أن لدى الأنظمة العربية الحاكمة دوافع سياسية وأيديولوجية للتخلّص من “حماس”، وأن رفض بعضهم ترحيل الفلسطينيين، لأسباب أمنية أو مبدئية، لا يحول دون ترحيبها بالقضاء على الحركة، وإخراج قادتها من القطاع، أو اعتراضها على نزع سلاح فصائل المقاومة. غير أن هذا الادّعاء يبدو أقرب إلى الدعاية الإعلامية أو الحرب النفسية، ولا يستند إلى حقائق ملموسة.
صحيحٌ أن لدى بعض الأنظمة العربية الحاكمة خلافات سياسية وأيديولوجية حادّة مع “حماس”، لكن يصعب تصوّر أن تكون لدى أيّ من هذه الأنظمة رغبة حقيقية في التعاون مع إسرائيل للتخلّص من “حماس”، أو لنزع سلاح المقاومة، قبل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة.
وفي جميع الأحوال، على الدول العربية كافّة، أن تدرك أن سلاح المقاومة هو الوسيلة الوحيدة لحماية الشعب الفلسطيني، سواء في قطاع غزّة أو في الضفة الغربية، ولولا وجود فصائل المقاومة الفلسطينية المسلّحة لتمكّنت إسرائيل من فرض التهجير القسري على هذا الشعب، ولتعرّض أمن الدول العربية المجاورة لمخاطر جمّة.
وفي تقديري أن “حماس”، ومعها بقية الفصائل الفلسطينية المسلّحة، لن تمانع حلّ نفسها وتسليم سلاحها لسلطة فلسطينية منتخبة من الشعب الفلسطيني، إذا تمكّن هذا الشعب من ممارسة حقّه في تقرير مصيره، ومن إقامة دولته المستقلّة.
لذا على القمّة المقبلة، حين تشرع في طرح رؤيتها لإعادة إعمار القطاع، أن تنتبه إلى أهمية الربط بين مصيري غزّة والضفة الغربية، وأن تؤكّد بشكل قاطع أن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلّة هي السبيل الوحيد لإقناع الفصائل المسلّحة بأنه حان الوقت لإلقاء سلاحها، والتحول أحزاباً سياسيةً تتنافس للوصول إلى السلطة عبر الوسائل السلمية والآليات الديمقراطية.
لم يكن بمقدور “حماس” أن تحقّق كل ما تمكّنت من إنجازه، حين قرّرت القيام بـ”طوفان الأقصى”، لولا نجاحها في خداع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية كلّها، التي ادّعت دوماً أنها قادرة على سماع دبيب النمل في أنحاء العالم العربي كلّه، فما بالك بقطاع غزّة المجاور، والمحاصر من البرّ والبحر والجوّ.
ولكي يتمكّن نتنياهو من تغطية سوءات أجهزته التي ضُبِطت عاريةً وعاجزةً، قرّر شنّ حرب إبادة شاملة على الشعب الفلسطيني، حدّد لها أهدافاً معلنةً، هي القضاء على “حماس” عسكرياً وإسقاطها سياسياً، واستعادة الأسرى الإسرائيليين بالقوّة.
أمّا أهدافها الحقيقية فكانت تهجير الفلسطينيين من القطاع تمهيداً لإعادة احتلاله، ومن الضفة تمهيداً لضمّها، بل وبدا نتنياهو على استعداد تامّ للتضحية بالأسرى كلّهم في سبيل تحقيق بقية أهدافه المُعلَنة والخفيّة، لكنّه فشل في تحقيق أيّ منها، فلا هو استطاع أن يقضي على “حماس” عسكرياً أو يسقطها سياسياً، ولا الشعب الفلسطيني رحل من القطاع أو من الضفة، وعندما بدأ الداخل الإسرائيلي يحاصره من أجل استعادة أسراه، لجأ إلى أسلوب الخداع والتضليل، فأوقف القتال في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، لكنّه عاد إليه بعدما تمكّن من استعادة بعض الأسرى من خلال المفاوضات مع “حماس”، وعندما علا صراخ أهالي الأسرى الإسرائيليين، تقدّم باقتراحات بنى عليها بايدن خطّةً لوقف إطلاق النار، أعلنها في مايو/ أيار الماضي (2024)، معتقداً أن “حماس” سترفض.
وعندما فوجئ بموافقتها من حيث المبدأ على الخطّة، عاد نتنياهو إلى استخدام أنواع الحيل والمناورات كلّها، أملاً في كسب الوقت اللازم لتحقيق انتصار عسكري، وانتظاراً لنتائج انتخابات الرئاسة الأميركية، التي توقّع أن يفوز فيها ترامب.
صحيح أنه كسب رهانه على ترامب لكنّه خسر رهانه على هزيمة “حماس”، ما اضطرّه لقبول المشروع نفسه، الذي سبق لبايدن أن تقدّم به لوقف إطلاق النار قبل ثمانية أشهر، قبل يوم من دخول ترامب البيت الأبيض.
رغم سجلّه الحافل بالفشل المتكرّر، لم يفقد نتنياهو الأمل في تحقيق إنجاز ما يساعده في البقاء في السلطة، والمحافظة على تماسك ائتلافه المهدّد بالانهيار، ومن ثمّ راح يراهن على أن ترامب ربّما يكون مستعدّاً لدعم رغبته في العودة إلى القتال في نهاية المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، وهو ما يفسّر إقدامه على التعلّل بحجج واهيةٍ لتعطيل الإفراج عن أكثر من 600 أسير فلسطيني، رغم وفاء “حماس” بجميع التزاماتها، أو لتقديم ما يكفي من الدعم السياسي لتمكينه من الحصول بالوسائل السياسية على ما عجز عن الحصول عليه بالوسائل العسكرية.
صحيحٌ أنه اضطر في النهاية للإفراج عن الأسرى الفلسطينيين بسبب حنكة “حماس” التكتيكية، وحسن إدارتها هذا الملفّ، لكن جعبة المناورات لديه لم تنفد بعد، فما زال يتهرّب من الدخول في مفاوضات المرحلة الثانية، التي كان يُفترَض أن تبدأ منذ حوالي أسبوعين، مفضّلاً التفاوض على إطالة أمد المرحلة الأولى، حتى لا يضطرّ للقبول بوقف دائم لإطلاق النار، وللانسحاب الكامل من قطاع غزّة.
وهو اليوم يراهن على أن القمّة العربية سوف ترضخ في النهاية لمعادلة مقايضة الإعمار في مقابل قبول ترحيل قادة “حماس” ونزع سلاح المقاومة.
وها هو زعيم المعارضة الإسرائيلية، يئير لبيد، يدخل إلى الحلبة مقترحاً أن تتولّى مصر إدارة غزّة، بين 8-15 سنة “مقابل سداد المجتمع الدولي ديونها الخارجية”، وتلك كلّها فِكَر خطرة، تدلّ على أن المجتمع الإسرائيلي (حكومةً ومعارضةً) ما زال يصرّ على التنكّر لحقوق الفلسطينيين، ومن ثمّ ينبغي على القمّة العربية أن ترفض هذا النوع من الفِكَر من حيث المبدأ، وأن تصرّ على عدم صلاحيتها أساساً لأيّ تفاوض، أو حوار بين الدول العربية وإسرائيل.
يراهن نتنياهو على أن القمّة العربية سترضخ لمعادلة مقايضة الإعمار في مقابل القبول بترحيل قادة “حماس” ونزع سلاح المقاومة
لا توجد مصلحة عربية تستدعي ممارسة أيّ شكل من الضغوط على فصائل المقاومة الفلسطينية المسلّحة، خصوصاً حركة حماس، فلن يستطيع نتنياهو استئناف القتال لأسباب كثيرة، أكثرها أهميةً إدراك المؤسّسة العسكرية وأجهزة الأمن الإسرائيلية أن استئناف القتال لم تعد له جدوى عسكرية، ولن يعيد الرهائن أحياء؛ ميل الرأي العام الإسرائيلي أخيراً نحو تفضيل خيار عودة الرهائن أحياءً على أيّ خيار آخر؛ وجود مؤشّرات توحي بأن ترامب لا يحبّذ العودة إلى القتال، ويفضّل المضي قدماً في طريق تنفيذ اتفاق ساهم بنفسه في إبرامه في آخر لحظة، لعلّه ينجح في إبرام “صفقة قرن جديدة”، تفتح أمامه الطريق للحصول على جائزة نوبل للسلام، التي يرى كثيرون أنه يتطلّع للحصول عليها.
وهنا مكمن الخطر الذي يتعيّن على القمّة العربية أن تنتبه إليه، وأن تعمل على إجهاضه. فبعد التضحيات كلّها، التي قدّمها الشعب الفلسطيني، وصموده الأسطوري في وجه آلة الحرب الإسرائيلية والأميركية معاً، يصبح تقديم التنازلات العربية بمثابة مكافأة لنتنياهو على فشله، وإتقانه فنّ الخداع والمناورة، من ناحية، وعلى ما ارتكبه من جرائم يندى لها جبين الإنسانية، من ناحية أخرى.
لم تنفّذ إسرائيل حتى الآن التزاماتها بموجب البروتوكول الإنساني الملحق باتفاق وقف إطلاق النار، ولا تزال ترفض الدخول في مفاوضات المرحلة الثانية، التي كان ينبغي لها أن تبدأ في اليوم السادس عشر من بداية تنفيذ الاتفاق، ويقع عليها التزام قاطع بالانسحاب نهائياً من محور فيلادلفي في اليوم الخمسين، بصرف النظر عن مصير المفاوضات المتعلّقة بالمرحلة الثانية.
ولأن الولايات المتحدة ومصر وقطر ليست مجرّد وسطاء في إبرام الاتفاق، وإنما أصبحت ضامنة للوفاء بما يرتّبه من التزامات على عاتق كلٍّ من “حماس” وإسرائيل، فعلى القمّة العربية في القاهرة أن تحدّد موقفها مطالبةً الأطراف المعنية بتنفيذ هذا الاتفاق بحذافيره، ورفض المحاولات الرامية لتعديله، ومطالبةً الولايات المتحدة بتحمّل مسؤولياتها دولةً ضامنةً لتنفيذ هذا الاتفاق، وقادرةً على حمل إسرائيل على الوفاء بما تعهّدت به، وتعيد تأكيد التزام الدول العربية الكامل بمبادرة قمّة بيروت العربية لعام 2002، وبإعلانها الرفض القاطع لتهجير الفلسطينيين من القطاع أو من الضفة، والتزام الدول العربية إقامة دولة فلسطينية مستقلّة عاصمتها القدس الشرقية في كامل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، وبأن جميع الدول العربية ستقطع علاقاتها مع إسرائيل، إذا لم تعلن الأخيرة رسمياً موافقتها على قيام الدولة الفلسطينية المنشودة خلال فترة لا تتجاوز ستّة أشهر.
آن الأوان لكي تثبت القمّة العربية المقبلة أن الدول العربية أصبحت مصمّمةً وقادرةً على مواجهة التحدّي، وإلا تكون قد حكمت على النظام العربي الرسمي بالفناء.
المصدر: موقع “العربي الجديد” الإخباري
نسخ الرابط تم نسخ الرابط