أخبار عاجلة

د.أيمن نور يكتب: الفيل..والبرشام

أتأمل تصرفات بعض السياسيين والإعلاميين، أجدهم أقرب ما يكونون إلى فيلٍ يقتحم محل زجاج؛ يتحركون باندفاع وتهور، لا يكترثون بحجم الدمار الذي يخلفونه وراءهم. كلماتهم الجارحة وقراراتهم المرتجلة، مثل أقدام الفيل الثقيلة، تحطم بجهل التفاصيل الدقيقة التي تُبنى بها الثقة، وتمزق النسيج الأخلاقي للمجتمعات. لا يدركون أن المسؤولية في السياسة والإعلام ليست مجرد سلطة أو شهرة، بل هي فن التوازن وحفظ القيم. ومن هنا، فإن من يمارس عمله بلا فهم ولا تواضع يشبه هذا الفيل، يمضي وهو يعتقد أنه يُحدث فرقًا، بينما في الحقيقة يترك وراءه عالمًا مليئًا بالشظايا التي يصعب ترميمها.

تلك الظاهرة الغريبة التي تمنح الجاهل يقينًا وثقة، بينما تجعل الفاهم يتردد ويُمسك عن إصدار الأحكام. المطلقه والمسلمه. مفارقة إنسانية تضرب بجذورها في النفس البشرية، لكنها في زمننا الحالي، زمن فلوس اليوتيوب و هوس السوشيال ميديا باتت أكثر وضوحًا وأشد خطرًا. فكلما قلَّت المعرفة، ارتفعت الجرأة؛ وكلما ازدادت المعرفة، تواضع مصدر الأحكام خلف ستار من التهذب.

في فضاءات السوشيال ميديا، أصبحت الكلمة سلاحًا، والجهل يُصنع منه صخبٌ يُغطي على الحقيقة. هنا، تتحول المنصات إلى محاكم تفتيش افتراضية، تُصدر أحكامها بلا قانون ولا أدلة، حيث يحكم الناس على الآخرين بناءً على معلومات مبتورة أو مغلوطة. اللافت والمؤسف أن هذه الأحكام تجد صداها، لأن اللايكات والمتابعات باتت هي المعيار الوحيد للتأثير، وليس الحقيقة.

فالجاهل يبدو واثقًا كأنه يملك مفاتيح الكون، بينما يقف العالم حائرًا، مدركًا أن ما لا يعرفه يفوق ما يعرفه. أليست هذه هي مأساة عصرنا؟ حين يُطلق الجاهل الأحكام بجرأة، بينما يتوارى العالم خلف تواضعه؟ويتوهم الاول انه بطل و شجاع

ذات يوم، تأملت لماذا لم أكن راغبًا في أن أكون قاضيًا، وأدركت أن الحقيقة ليست دائمًا في ما نراه. القاضي، مهما كان حكيمًا، يحكم بما يتوفر لديه، لكن ماذا عن ما لا يُرى؟ الحقيقة ليست دائمًا واضحة، وما يخفى عنها قد يكون أعمق مما يبدو.

أستحضر هنا واقعة طريفة لكنها مليئة بالعبر. كان لي زميل في الجامعة يعيد مادة اللغة الأجنبية، التي تتضمن نصفها باللغة الإنجليزية ونصفها بالفرنسية، لسنوات بسبب ضعف مستواه. وفي إحدى المحاولات، قرر أن يعتمد على “البرشام”، فكتب كل الإجابات عن الفرنسية والإنجليزية. لكن من فرط جهله، وضع الإجابات الإنجليزية في ورقة الفرنسية، والعكس صحيح. خرج يومها مبتهجًا، يحدثنا عن إبداعاته في الإجابة، بينما كان الواقع أن امتحانه لم يكن سوى دليلٍ جديد على شجاعة الجهل.

العنف اللفظي من أخطر ما أنتجته هذه الظاهرة، هو ذلك العنف اللفظي الذي يمارسه الجهلاء دون تردد. الإهانة، الاتهامات، والشتائم، أصبحت وسائل سهلة يستخدمها البعض للنيل من الآخرين. ولكنهم ينسون أن الكلمة، وإن بدت خفيفة على اللسان، قد تفتح جروحًا عميقة في النفوس.

في السياسة والإعلام، يتضاعف خطر شجاعة الجهل، إذ يمتد تأثيره إلى مجتمعات بأكملها، فينشر الجهل ويُضعف من قيمة المعرفة والتعليم، ويخلق ثقافة ازدراء الآخرين وتهميش القيم الأخلاقية. هذه الممارسات تسهم في تعميق الانقسامات وزرع الفوضى، وهو ما يهدد مستقبل أي مجتمع يسعى للنهوض.

إن شجاعة الجهل ليست مجرد ظاهرة، بل اختبار أخلاقي. أن تتوقف قبل أن تتحدث، أن تفكر قبل أن تحكم، أن تدرك أن المعرفة ليست مجرد كلمات بل مسؤولية. وكما قال الفيلسوف سقراط: “الحكمة تبدأ حين نعترف بجهلنا.”

في عصر السوشيال ميديا باتت الحكمة عملة نادرة، والتواضع فضيلة تحتاج إلى شجاعة حقيقية. ولعلنا، إن أردنا النجاة من صخب الجهل، علينا أن نُعيد الاعتبار لتلك اللحظات الصامتة التي تسبق كل كلمة، وتلك المساحات المتواضعة التي تمنحنا الحكمة.

نسخ الرابط تم نسخ الرابط

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق واشنطن تؤكد دعمها لعملية الانتقال السياسي نحو حكومة شاملة في سوريا
التالى موقع عبري يكشف تفاصيل جديدة حول اغتيال نصر الله