شكلت معركة ردع العدوان في سوريا منعطفاً سريعاً قلب كل موازين المنطقة وخلق واقعاً جديداً لم تشهد المنطقة مثله منذ أكثر من 13 عاماً، وأعادت حالة تجاذب وصراع فكري إلى الواجهة بعد سنين من الكتمان والقمع على يد الاستبداد والثورات المضادة، وسوريا الآن هي مسرح هذا الصراع، وساحة معاركه الفكرية التي لم تعد ممكنة في الكثير من البلدان.
جذور الاختلاف
العلمانيون والإسلاميون كانوا دائماً الطرفين الرئيسيين في هذا الصراع، ولا شك بأن الاختلاف الفكري يلعب دوراً رئيسياً في هذا التنافر ولكن هذا الاختلاف غذى اختلافات أخرى وسعت الشرخ بينهما، ولعب وضع كل منهما وأيدولوجيته دوراً في تشكيل طبيعة عمله، فبينما يميل العلمانيون للتحالفات الدولية مع الدول الكبرى، يميل الإسلاميون لتحالفات إقليمية مع دول إسلامية، وبينما يفضل العلمانيون العمل داخل الإطار المؤسسي ويشكلون مؤسسات لها ارتباطات مع المؤسسات الدولية غالباً، يفضل الإسلاميون طابع الجماعة والعمل في الأوساط الشعبية بمؤسسات أقل حجماً وتنظيماً وبتواصل أقل مع العالم الخارجي ولكنها ذات ترابط اجتماعي أعلى بكثير، وهذا كلام عام له الكثير من الاستثناءات، أما في الحالات التي تطورت فيها الثورات نحو العمل المسلح فقد كان للإسلاميين اليد الطولى والتضحيات الأكبر أما العلمانيون فكانوا غالباً بعيدين عن العمل المسلح مركزين على العمل القانوني والحقوقي.
الاستبداد
العلمانيون والإسلاميون معاً عانوا من الاستبداد والدكتاتوريات التي حكمت بلادنا، ورغم أن هذه الأنظمة كانت ترفع عنوان العلمانية غالباً، إلا أنها أنشأت تحالفات مع مؤسسات دينية لعبت دوراً في استقرارها في الحكم، مقابل تنكيل وتعذيب وملاحقات تعرض لها كل إسلامي رفض الطاعة وخرج عن المؤسسات والجماعات الدينية المرضي عنها من قبل السلطة، وكنظرائهم عانى العلمانيون من الاستبداد وتعرضوا للملاحقة والتضييق، ولو بدرجة أقل، ومنهم أيضاً كانت هناك مؤسسات وشخصيات استخدمتها الأنظمة الديكتاتورية في تثبيت حكمها.
صراع من القواقع
شكلت فترات الاستبداد مراحل هدوء في الصراع بين هذين التيارين فلم تتح للحركات الفكرية والسياسية خلالها أن تتناقش وتتنافس وتتعرف على بعضها بشكل كافي، فتشكلت تصورات ناقصة وبنيت توقعات متطرفة غلبت عليها السلبية لكل طرف عن نظيره، وهي حالة في غالبها لم تكن مقصودة وإنما كانت بسبب الضرورات الأمنية التي فرضتها الملاحقات والمضايقات الأمنية، والحرمان من ممارسة العمل السياسي بشكل صحيح، ولكنها في النهاية أدت إلى تقوقع كل مجموعة على نفسها وتضيق إطار تواصلاتها وتشكيل تصوراتها وآرائها بعيداً عن العالم الخارجي، وعن الفهم الصحيح للقوى الموجودة وقدراتها وأفكارها.
تصورات شاذة
خلقت حالة التضييق الأمني حالة انكفاء لدى الجميع ولعل أبرز المشاكل التي سببتها هذه الحالة هي التصورات الشاذة لكل طرف عن نظيره، حيث يختصر بعض الإسلاميين أهداف العلمانية بتحليل شرب الخمور ومحاربة مظاهر التدين ونشر المفاهيم الغربية المعادية للإسلام، وكذلك يختصر بعض العلمانيين أهداف الإسلاميين بفرض الحجاب ومحاربة الموسيقا والفنون وفرض حكمٍ ثيوقراطي على شاكلة حكم الكنيسة في أوروبا العصور الوسطى، وهذا وإن صح في بعض الفئات من الطرفين فهو لا يصح في معظمها والقليل من الإطلاع والقراءة والمتابعة كفيل بأن يثبت ذلك.
الربيع العربي
شكل الربيع العربي مرحلة مهمة في الصراع الإسلامي العلماني، فقد غلبت على المراحل الأولى من هذا السيل الاتحاد بين جميع الكتل والتيارات المعارضة للأنظمة الديكتاتورية، ثم ظهرت شعبية الإسلاميين وثباتهم وتطورهم لتدفعهم إلى الواجهة ليحكموا ويتعاملوا مع الكم الهائل من المشاكل والتعقيدات التي خلفتها الأنظمة البائدة ولكن وصول الإسلاميين إلى السلطة خلق مخاوف كبيرة لدى العلمانيين وقلقاً دولياً لدى المجتمع الدولي الذي يتمتع العلمانيون بعلاقة جيدة نسبياً معه.
الفزاعة الإسلامية والثورات المضادة
مع ظهور الإسلاميين كقوة مؤثرة أثبتت قدرتها على التأثير بالناس والوصول لأغلب فئات الشعب، تحركت لدى العلمانيين المخاوف من الثيوقراطية والتسلط الديني مدفوعين بممارسات الحركات التكفيرية وتصرفاتها المتطرفة، بالإضافة للأدبيات المستوردة من أوروبا التي عانت من تسلط المؤسسات الدينية في العصور الوسطى (وهي التي أدت لنشأة العلمانية أساساً)، فحمّلوا الإسلاميين بكل طوائفهم ومشاربهم هذه الذنوب، بل وكانوا معارضين شرسين للإسلامين واستغلوا ضعف خبرتهم في الحكم لاصطياد أخطائهم وهذا التصيد والمحاربة أديا لسقوط الإسلاميين ولكنهم لم يسقطوا وحدهم بل سقطت البلاد بعدهم في أحضان الثورات المضادة.
التجربة الإسلامية في الميزان
لا يمكن إنكار أخطاء الإسلاميين، وضعف خبرتهم وتهورهم أحياناً، ولكن هذا أمر طبيعي خصوصاً وأن الإسلاميين غالباً خرجوا من السجون والدوائر الضيقة المغلقة التي عاشوا فيها لسنوات إلى سدة الحكم بدعم من الشعبية الجارفة لهم التي غذتها الروح الإسلامية لشعوب المنطقة بعد سنوات طويلة من المعاناة تحت الحكم الاستبدادي الذي يرفع غالباً شعارات العلمانية أو الإشتراكية التي تصطدم في كثير من الأحيان مع الأفكار الإسلامية المحافظة التي رغم كل شيء لا تزال متأصلة في نفوس الغالبية الصامتة من الشعوب العربية، وهنا لا بد لنا بعد الاعتراف بأن الإسلاميين امتلكوا الشرعية وارتكبوا الأخطاء أن نتسآئل عن دور العلمانيين وصوابيته.
المُتهِم والمُتهَم
لقد كان موقف العلمانيين واضحاً منذ البداية، بأنه معارض للأصولية التي ينتمي لها الإسلاميون، وبالإضافة لذلك لم يحترم جلهم رأي الشعب، فتآمر وحارب بشراسة غير مدرك لخطورة الموقف وتربصِ الثورات المضادة وفلول الأنظمة السابقة بمكتسبات الربيع العربي الذي استحال خريفاً متصحراً بسبب هذه التصرفات، بل إن بعضهم فضل الانظمة الديكتاتورية على الديموقراطية التي ستجلب الإسلاميين إلى السلطة كما وكانت أصوات بعض العلمانيين المتطرفين تتعالى بالغضب والاستنكار ضد كل مظهر من مظاهر التدين أو الدعوة الإسلامية متجاهلين أن هذه المظاهر هي جزء من ثقافة البلاد والشعب وحق من حقوق الإنسان فيما يخص حياته الشخصية والدعوة والترويج لأفكاره ومعتقداته وتجاهل هؤلاء حقيقة أن الاستبداد في بلادنا العربية كان يرفع غالباً راية العلمانية، وأنه إن جاز لهم إلصاق جرائم القاعدة بالإسلاميين فهذا يعطي للإسلاميين الحق بإلصاق جرائم واستبداد الأنظمة العربية بهم وإن جاز إلصاق تسلط المؤسسات الدينية الأوروبية في العصور الوسطى بإسلاميي يومنا هذا، فللإسلاميين اليوم الحق بأن يلصقوا بالعلمانيين كل جرائم تسلط الأنظمة الاستعمارية والدكتاتورية وما جلبته من خراب على العالم.
لا يمكن اختصار الصراع العلماني الإسلامي بالربيع العربي ولكن وبلا شك فإن الثورات العربية أبرزت معالم هذا الصراع ورمته لأول مرة منذ عقود في الشارع ليتصارع الطرفان أمام أعين الشعب دون ضغط أو خوف من القمع والملاحقات الأمنية وإذا عدنا إلى سوريا فإننا الآن أمام صراع جديد بين هاتين القوتين، يعيد إلى الأذهان صراعاً حصل بعيد الموجة الأولى من الربيع العربي، ولكننا الآن أمام خبرة وتجارب كثيرة يمكن للسوريين بإسلامييهم وعلمانييهم التعلم منها لبناء مستقبل أفضل لكل السوريين تكون فيه الصراعات الفكرية (التي تشكل حالة صحية) تحت سقف الوطن وبعيدة عن القمع والخوف وإلغاء الأخر
نسخ الرابط تم نسخ الرابط