الأحد 2 فبراير 2025 08:24 مساءً
يحسب البعض اللهجة العامية للشعوب، تسطيحاً للثقافة، وانحلالاً أدبياً، فيعتبرون ورود كلمات عامية دارجة فى نص أدبى دليلاً على تدنى اللغة وبرهاناً على انحدار الثقافة.
وهذا وهم كبير، حاول بعض دعاة التمرد دحضه وإثبات غلطه، فكتب قبل نصف قرن الأديب مصطفى مشرفة رواية بالعامية المصرية سرداً، وحواراً بعنوان، قنطره الذى كفر، وكتب لويس عوض سيرته وهو طالب بالعامية بعنوان «يوميات طالب بعثة مصرى».
ورغم ذلك ظل الصراع قائماً بين أنصار العامية من ناحية، وبين أنصار الفصحى من ناحية أخرى، غير أن البعض لاحظ أن أنصار العامية كثيراً ما يكتبون بالفصحى، وأن أنصار الفصحى كثيراً ما يتكلمون بالعامية. وربما كان هذا هو الدافع الأساسى لأديب مخضرم، وباحث متميز هو السيد زرد أن يتحفنا مؤخراً بإصدار معجم للعامية المصرية تحت عنوان «معجم لسان المصريين فى القرن الواحد والعشرين» عن مؤسسة غايا للإبداع.
ولاشك أن العمل مختلف وذو قيمة إذ يقدم بشكل مدقق أصول ومعانى ومدلولات كل الكلمات المصرية المستخدمة فى لغة الحديث بين الناس.
لقد قضى المؤلف سنوات طويلة يرصد ويبحث، ويجمع الكلمات ويستقى أصولها وتطورها عبر الأزمنة، مدفوعاً بعدة دوافع لإنجاز هذا العمل، منها مثلاً أن هناك كلمات عرفها المؤلف قبل خمسين عاماً، ولا تكاد تستخدم فى الوقت الحالى مثل كلمة «ماين» بمعنى ساير، و«لبص» بمعنى تحير. ومنها أيضاً أن هناك ألفاظاً أخرى يتداولها الجيل الشاب حالياً، لا تكاد الأجيال القديمة تعرف معانيها ومدلولاتها مثل «روش» أو «طرش» أو غيرها.
ويلاحظ السيد زرد فى مقدمته أن العامية المصرية استقت كلمات عديدة من لغات مختلفة منها المصرية القديمة، والقبطية، والتركية، والإنجليزية، وأن التحول من لغة رسمية إلى لغة أخرى رسمية لم يحل دون استخدام ألفاظ من اللغة المتروكة فى العامية.
فمثلاً بعد فتح عمرو بن العاص لمصر سنة 641 ميلادية، ظل المصريون يتحدثون اللغة القبطية، ولم يتخلوا عنها إلا بعد أربعة قرون عندما أصدر خليفة مهووس ومضطرب اسمه الحاكم بالله أمراً بحظر استخدام اللغة القبطية تماماً واستبدالها بالعربية. وغير أن التأثير الأكبر فى العامية المصرية كان من جانب اللغة التركية لارتباط مصر بتركيا لنحو أربعة قرون نتيجة تبعيتها للخلافة العثمانية.
ومن الكلمات المستقاة من التركية كلمة «دوغرى»، وأصلها دوجرى ومعناها مستقيم أو مباشر. وهناك كلمة «شلق» وتوصف بها المرأة العنيفة بذيئة اللسان، وهى أيضاً مستوحاة من لفظ «سلاك» بالتركية أى عارٍ.
ومن القبطية كلمة «شاط» بمعنى اشتد واحتدم، ويقال «دمه شايط» كناية عن الغضب، وهى مستقاة من لفظة قبطية هى شووت أى اشتد.
وهناك كلمة «عره» بمعنى وضيع أو منحط، وهى مستقاة من طائفة العيارين فى العصر المملوكى، وقد كانت هذه الطائفة مشهورة باللصوصية.
كذلك هناك كلمات مستقاة من لغات أجنبية مثل كلمة «فالصو» المأخوذة عن الإيطالية، وكلمة «فازه» المعربة عن الفرنسية، وكلمة «كابل» أى حزمة أسلاك والمنقولة عن الإنجليزية بالمعنى نفسه.
أيضاً نلاحظ أن هناك فى العامية كلمات مصنوعة من جذور عربية فصحى مثل كلمة «لضى» فيقال «فلان مش لاقى اللضى» أى مفلس وهى محرفة من كلمة اللظى الفصيحة تشبيهاً للشخص الذى فقد ماله بأنه كالجالس على لهيب النار.
وفى المجمل، إن هذا المعجم الفريد يستحق تقدير واهتمام ورعاية مؤسسات الثقافة المصرية، ذلك أنه سد فراغاً عانينا منه لعقود طويلة فى المكتبة المصرية، وساهم فى توثيق كلمات بدأت طريقها نحو الاندثار.
والله أعلم.
mostafawfd@hotmail. com