السبت 4 يناير 2025 11:42 صباحاً
تعني كلمة "الهرمنيوطيقا" أو "التأويل" فن تفسير النص، وهي في الأصل اليوناني تعني التفسير أو التعبير أو الترجمة، وقد ربط الفيلسوف الألماني هيدجر بين "الهرمنيوطيقا" كمنهج لفهم النصوص وبين الفينومونولوجيا كمنهج لمعرفة العالم ،وبالرغم من أرتباط "الهرمنيوطيقا" الادب بالعلوم الإنسانية، والمنهج الهرمنيوطيقي بمناهج النقد الأدبي عند بول ريكور، فإنه يميز بين نوعين من التعامل مع الرموز أو الإشارات وهما التعامل التقليدي مع الإشارة كوسيط خالص، والتعامل الهرمنيوطيقي الذي يقوم علي إقصاء المعنى السطحي الزائف والكشف عن الخفي. والسؤال الآن، ماذا يُقصد بهذا المصطلح؟
عزيزي القارئ إذا تتبعنا البحث التأصيلي لهذا المصطلح نجده كما ذكرنا ببداية مقالنا أنه يوناني الأصل ويُسمى بـ Ermhneuc اشتق من اللفظ "Hermes" اسم الإله "هرمس" عند اليونانيين القدامى. حيث إن هرمس كان إلهًا للعلوم الخفية، وكان مرادفًا للإله المصري توت، وُيسمى عطارد "Mercuy" عند الرومان. ولفظ "Hermetic" يشير إلى العلم المستور، ويشير أيضًا إلى المغلق المحكم. كما كانت صناعة الكيمياء تسمى فك الانغلاق إلا الإله هرمس عندهم، فهو الذي يفتح باب العلوم الخفية ويجليها للبشر. كما أن تسميته باللاتينية الزئبق، عند الرومان، بين تفلته وصعوبة الإمساك به، وبالتالي تفلت العلوم التي هو إلها لها.
كما نجد للهرمنيوطيقا عدة دلالات نذكر منها، نظرية تأويل وتفسير النصوص، أو عمل فني، أو عمل موسيقي، إدراك علاقات المعنى في تمظهراته الحيوية مع أشكاله المختلفة، وذلك التأويل، هدفه تأويل النصوص الفلسفية والدينية. ويُقصد بـ "التأويل" ذلك التأويل الذي يتم داخل العمل الأدبي، من حيث إدراك مغزاه وفكرته وطرحه العام. ويتحقق التأويل بإعادة صياغة المضمون الفني، أي عن طريق نقله إلى لغة إما منطقية مفهومية، وأعني بذلك (علم الأدب)، أو إعلامية إنشائية (المقالة)، وإما فنية مثل (الرسم، المسرح، السينما، والفنون الأخرى).
صديقي القارئ تكشف هذه الدلالات لمصطلح الهرمنيوطيقا، عن التحولات التي طرأت عليه، حيث تأسس في الفلسفة اليونانية، معبرًا عن الفهم الأسطوري، ومن ثم انتقل إلى الديانتين المسيحية واليهودية، فنشأ علم اللاهوت المسيحي لتأويل الإنجيل، ووظفته الفرقة اليهودية القبالية في تأويل التوراة تأويلًا باطنيًا، وهنا أصبحت الهرمنيوطيقا تمثل التأويل الديني. ثم انتقل إلى الفلسفة لتأويل النصوص اللغوية، أيًا كانت هذه النصوص، وتشكلت الهرمنيوطيقا الفلسفية، ومع انفصال العلوم عن بعضها انتقل هذا المصطلح إلى الدراسات الأدبية، ووجد فيه النقد منهجًا لتأويل النصوص الأدبية، وأصبح يعبر عن الهرمنيوطيقا النقدية، والتي يفضل البعض وصفها بالتأويل النقدي، لتعلق مصطلح الهرمنيوطيقا بالفلسفة.
والشيء بالشيء يُذكر نجد خير مثال نسوقه لكم ويُجسد التطبيق العملي لمصطلح "الهرمنيوطيقا"، هو ذلك المشروع العملاق الذي قدمه لنا الدكتور شرف عبدالحميد، تحت عنوان "سلسلة الفلاسفة اليونان الأوائل: إعادة بناء وتأويل جديد". حيث كاد الدكتور شرف بهذا المشروع المتفرد من نوعه، بالغ التأثير في الحقل الفلسفي، أن يخطو أول خطوة نحو التطبيق الفعلي للمنهج الهرمنيوطيقي الصحيح، لينفض الغبار عن تلك النصوص لإعادة ترجمتها بحرفية ودقة، فجاءت تلك السطور، مكتوبة بعبارات ماسية براقة تظهر زهوًا ولمعًا. ولأهمية ذلك المشروع سنفرد له المساحة التي يستحقها، على وعد أن نقدم قراءة مفصلة لذلك المشروع الفلسفي، لِمَا يحمله من دلالة تطبيقية لهذا المنهج المعرفي – الهرمنيوطيقا – ليس في الحقل الفلسفي فحسب، بل في الحقل الثقافي عامةً.
وفي الختام، الهرمنيوطيقا في اللغة لها معانٍ لعل منها وبوجه مشهور بين اللغويين هو إرجاع الشيء إلى أصله، أما عند علماء وفلاسفة اللاهوت هو التفسير الرمزي للكتب المقدسة. وفي عبارة واحدة نقول، فن أو علم الهرمنيوطيقا هي تلك المدرسة الفلسفية التي تشير إلى دراسة وفهم النصوص، وفي الدراسات الدينية (الهرمنيوطيقا المقدسة) يستخدم للدلالة على دراسة وتفسير النصوص الدينية.