أشار العديد من أهالي مخيم جنين إلى أن رمضان هذا العام جاء محملًا بأوجاع النزوح وفقدان المنازل، حيث يعيش الآلاف تحت وطأة الهجمة العسكرية الإسرائيلية الأخيرة.
ومع تدمير المخيم وتهجير السكان، تحول الشهر الفضيل من شهر الرحمة والسكينة إلى معاناة يومية وصراع من أجل البقاء.
أوضحت فاطمة أحمد، وهي أم لطفلين، بأن هذا رمضان هو الأصعب عليها وعلى أسرتها. تقول: “نزحت قبل أربعين يوماً من منزلي في مخيم جنين بسبب الهجمة العسكرية الإسرائيلية، ولم أعد أستطيع تحضير أي شيء مثل السابق.
في الماضي كنت أجهز لرمضان بفترة، نحضر الزينة والمأكولات، لكن اليوم، لا طقوس، ولا مائدة، ولا فرحة. أطفالي يفتقدون رائحة المنزل وألعاب الحي. حتى وجبات الإفطار باتت وجبات جاهزة نأخذها من التكيات.”
تضيف فاطمة أن كل لحظة في هذا الشهر باتت صعبة، وكل شيء كان بسيطًا في الماضي أصبح معقدًا اليوم. تعيش في سكن مخصص للطلبة، وفي كل يوم تتمنى العودة إلى حياتها الطبيعية، لكن الأمل ضئيل في ظل الظروف الحالية.
وأكد يوسف الزبيدي، أحد النازحين أيضًا من مخيم جنين، أن الأجواء الرمضانية التي كانت تميز المخيم قد اختفت بالكامل هذا العام. “لم يعد هناك مسحراتي يجوب الشوارع، ولا شباب يتجمعون بعد صلاة التراويح. المخيم كان ينبض بالحياة في رمضان، كانت الأضواء والزينة تملأ المكان، واليوم نحن مهجرون في مساكن مؤقتة.”
يوسف يشير إلى أن فقدان منازلهم لم يكن فقط خسارة مادية، بل اجتماعية وثقافية أيضًا، فكل تلك الطقوس والذكريات المرتبطة بالشهر الفضيل أصبحت جزءًا من الماضي.
أشار الدكتور خالد السعدي، أستاذ العلوم الاجتماعية بإحدي الجامعات، إلى أن النزوح الجماعي من مخيم جنين يعكس كارثة إنسانية غير مسبوقة في المنطقة.
“رمضان هو شهر العبادة والسكينة، وهو مناسبة للترابط الاجتماعي، لكن ما نراه اليوم هو تشريد جماعي يمزق هذا الترابط. النزوح القسري لا يقتصر على تغيير مكان الإقامة، بل يمتد ليشمل الهوية الثقافية والروحية للمجتمع.”
الدكتور خالد يؤكد أن هذه الأزمة ستترك أثرًا نفسيًا عميقًا على الأطفال والنساء، وستزيد من الفجوة بين الماضي والحاضر في حياة هؤلاء النازحين.
أوضحت ليلى العبيدي، ناشطة حقوقية، أن ما يحدث في مخيم جنين هو أكثر من مجرد تهجير؛ هو “محاولة لإبادة الهوية الفلسطينية في المنطقة”.
تقول ليلى: “رؤية الأطفال وهم يفقدون منازلهم وألعابهم وذكرياتهم أمر مؤلم جدًا. عندما نلتقي بالعائلات النازحة، نرى كيف أنهم لم يفقدوا فقط السكن، بل فقدوا الطمأنينة والإحساس بالانتماء. الأطفال الذين كانوا يلعبون في الشوارع ويذهبون لصلاة التراويح مع آبائهم، باتوا اليوم يعيشون في حالة من الضياع.”
أكد أحمد عبد الرحمن، وهو أحد الرجال النازحين، أن رمضان لم يعد كما كان في السنوات الماضية. “كنا نفرح بقدوم رمضان، نتشارك الطعام مع جيراننا، وكان هناك دائمًا ضيف على مائدة الإفطار. اليوم أنا في سكن مؤقت، ولا أستطيع حتى تأمين الطعام لأطفالي بشكل يومي. نشعر بالعزلة والوحدة، لم يعد لدينا أي شيء نحتفل به.”
ويشير أحمد إلى أن التحديات اليومية تجعله يفكر في البقاء على قيد الحياة بدلًا من الاستمتاع بالشهر الفضيل كما كان يفعل في الماضي.
قالت هدى صالح، وهي أم لثلاثة أطفال، إنها تعيش في “غربة” رغم أنها لم تترك مدينتها. “العيش في مكان غريب مثل السكن الطلابي يجعلنا نشعر بأننا بعيدون عن كل شيء، حتى أطفالنا يسألونني لماذا نحن هنا وليس في بيتنا؟ لا أملك جوابًا لهم. نحاول جاهدين إحياء رمضان داخلنا، ولكن الظروف أقوى منا.”
وتضيف هدى أن غياب الاستقرار يضرب روح الأسرة، فالحياة اليومية أصبحت عبئًا ثقيلًا، وكل شيء بات صعبًا، حتى تحضير وجبة الإفطار.
أشار عبد الله رشيد، وهو مختص في الشؤون النفسية، إلى أن النزوح القسري والعيش في بيئة غير مألوفة يولدان شعورًا دائمًا بالخوف والقلق، وهذا يظهر بشكل أوضح خلال المناسبات الدينية مثل رمضان.
“العائلات التي تعيش في جنين تعيش حالة من التوتر النفسي، خاصة مع فقدان أماكنهم المقدسة وتفكك روابطهم الاجتماعية. هذا الوضع يترك أثرًا عميقًا على الصحة النفسية للأفراد، خصوصًا الأطفال الذين يجدون صعوبة في التأقلم مع واقع جديد.”
وأشارت إحدى العاملات في جمعية الكفيف التي تأوي بعض النازحين، “رفضت ذكر إسمها” إلى الجهود الكبيرة التي تبذلها الجمعية لمحاولة التخفيف من معاناة العائلات.
“نحاول توفير كل ما نستطيع للعائلات هنا، سواء من حيث الطعام أو الأنشطة للأطفال، لكن لا يمكننا تعويض فقدان المنازل والذكريات. الكل هنا يشعر بالحنين للمخيم، حتى الأجواء الدينية تغيرت، وكلما مر يوم يزداد الحنين للوطن.”
قال أبو جهاد سالم، أحد المسنين النازحين، إن ما يحدث في جنين هو “نكبة جديدة”. “تهجرنا من بيوتنا وكأننا نعيش نكبة أخرى. في السابق، رغم وجود الاحتلال، كان لنا مكاننا وبيوتنا وحياتنا. الآن نحن مشردون، لا نعرف إلى متى ستستمر هذه الحال.”
ويرى أبو جهاد أن ما يعيشه الناس اليوم هو جرح لن يندمل بسرعة، خاصة أن الاحتلال لم يترك أي مجال لأمل العودة قريبًا.
أكدت منال يوسف، وهي معلمة من المخيم، أن التهجير لم يؤثر فقط على العائلات النازحة، بل أيضًا على الطلاب. “الطلاب لا يستطيعون التركيز في دراستهم بسبب الظروف الصعبة التي يعيشونها. كيف يمكن لطفل أن يدرس وهو لا يعرف إذا كان سيعود إلى منزله أم لا؟ هذه الأزمة لا تؤثر فقط على الحياة اليومية للعائلات، بل تمتد لتؤثر على مستقبل جيل كامل.”
أوضح سعيد قاسم، أحد المتطوعين في توزيع الوجبات الجاهزة للعائلات النازحة، أن العمل الإنساني في ظل هذه الظروف بات أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى.
“نحن نحاول بقدر الإمكان توفير الطعام والشراب للعائلات، لكن مع كل ذلك نشعر أننا لا نستطيع تقديم ما يكفي. العائلات هنا فقدت كل شيء تقريبًا، وهناك حاجة ماسة ليس فقط للمساعدة المادية، ولكن أيضًا للدعم النفسي.”
أشار المهندس محمود خليل، أحد المختصين في شؤون إعادة الإعمار، إلى أن المخيم لن يعود كما كان بسهولة.
“الهدم الذي قام به الاحتلال كان منهجيًا ومتعمدًا لتغيير ملامح المخيم بشكل كامل. إعادة بناء ما تم تدميره لن يكون سهلًا، سواء من الناحية المادية أو الاجتماعية. ما نشهده اليوم هو محاولة لتفكيك بنية اجتماعية وثقافية عريقة كانت رمزًا للصمود الفلسطيني.”
يبقى رمضان هذا العام مختلفًا وأصعب من أي وقت مضى على أهالي مخيم جنين. مع نزوح الآلاف وتدمير المنازل، أصبح الفقر والتشرد هو السمة السائدة. لكن رغم كل ذلك، يظل هناك أمل في العودة وإعادة بناء ما دمره الاحتلال.
وفي ظل هذه الأوضاع الكارثية، يبقى الأمل ضعيفًا لكنه موجود في قلوب أهالي مخيم جنين الذين يعيشون بين ألم النزوح وشوق العودة. رغم كل التحديات، يستمرون في التمسك بحلم استعادة منازلهم وإعادة بناء حياتهم، آملين في أن يكون المستقبل أكثر إنصافًا ورحمة.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط