في مشهدٍ كشف عن طبيعة التحالفات الهشة وموازين القوى الحقيقية في السياسة الدولية، شهد البيت الأبيض يوم الجمعة 28 فبراير 2025 لقاءً متوتراً بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. لم يكن اللقاء حواراً بين حلفاء كما يحاول الإعلام الأمريكي تصويره، بل أقرب إلى جلسة توبيخ علنية، حيث وجد زيلينسكي نفسه في مواجهة الضغوط الأمريكية التي تتطلب منه التنازل عن مواقفه في سبيل استمرار الدعم العسكري والمالي لبلاده. لكن ما كان مفاجئاً هو رد فعل زيلينسكي، الذي لم يرضخ بسهولة، بل أبدى مقاومة لفظية رغم إدراكه لحجم الورطة التي أوقعت بلاده فيها السياسات الغربية.
هذا الحدث يكشف بوضوح الوجه الحقيقي للنظام الدولي، حيث تُستخدم الدول الصغيرة كأدوات لتنفيذ أجندات القوى الكبرى، ثم تُرمى عند انتهاء صلاحيتها. فبعد أن دفعت واشنطن أوكرانيا إلى حرب استنزاف طويلة ضد روسيا، وسوّقتها كخط دفاع أول عن “الديمقراطية الغربية”، تبدو اليوم مستعدة للتخلي عنها، متى ما وجدت ذلك يخدم مصالحها.
سقوط الوهم الغربي: دروس في الخذلان
ما حدث في البيت الأبيض يعكس تحولات جوهرية في النظام الدولي، حيث لم تعد واشنطن قادرة على الإيفاء بوعودها حتى لأقرب حلفائها. أولاً، يظهر الحدث أن الولايات المتحدة لا تتحالف مع الدول، بل مع المصالح، وأن من يراهن على دعمها مصيره التهميش أو الخذلان في اللحظة الحرجة. ثانياً، يؤكد أن واشنطن لا تمانع في التضحية بأوكرانيا على طاولة المفاوضات إذا وجدت في ذلك مخرجاً لتقليل خسائرها أمام روسيا، خاصة وأن ترامب، المعروف ببراغماتيته الاقتصادية، يسعى إلى صفقة تنقذ مصالحه الشخصية وحساباته الانتخابية. ثالثاً، يرسّخ هذا الحدث صعود روسيا كقوة دولية قادرة على فرض شروطها، بعدما أصبح واضحاً أن الولايات المتحدة باتت تتعامل مع الملف الأوكراني من موقع دفاعي وليس هجومي.
تداعيات المشهد على المنطقة العربية وفلسطين
في العالم العربي، يحمل هذا الحدث دلالات خطيرة، خاصة في ظل السياسات الأمريكية تجاه فلسطين، حيث يُظهر ازدواجية المعايير الغربية بأوضح صورها. ففي الوقت الذي يتظاهر فيه ترامب بالسعي نحو “السلام” في أوكرانيا، يمنح إسرائيل الضوء الأخضر لتوسيع عملياتها في غزة، مستغلاً حالة الانشغال الدولي بالحرب في أوروبا. فالإدارة الأمريكية التي تتحدث عن ضرورة “حماية السيادة الأوكرانية” تدعم بلا تردد مخططات تهجير الفلسطينيين وتدمير ما تبقى من غزة، وتمنح تل أبيب الغطاء الكامل لمواصلة المجازر.
هذا المشهد يعيد إلى الأذهان دروساً سياسية مهمة:
1. الاعتماد على الغرب مقامرة خاسرة – فأوكرانيا، التي تلقت دعمًا عسكريًا واقتصاديًا هائلًا، تُركت الآن تواجه مصيرها وحدها، فما بالنا بالدول العربية التي لم تحصل إلا على الفتات؟
2. القوة وحدها تحمي الأمم – فإذا كانت أوكرانيا قد وجدت نفسها ضعيفة أمام الضغوط الغربية رغم تسليحها، فكيف يمكن للعالم العربي، الذي يعتمد على وعود فارغة، أن يضمن أمنه؟
3. فلسطين القضية المركزية – حيث يؤكد هذا الحدث أن القضية الفلسطينية ليست مجرد نزاع محلي، بل نموذج لكيفية تعامل القوى الكبرى مع الشعوب المستضعفة. تماماً كما طُلِب من زيلينسكي تقديم تنازلات قسرية، يسعى ترامب اليوم لفرض “صفقة تهجير” على سكان غزة، في مخطط لا يختلف في جوهره عن تصفية القضية الفلسطينية عبر الضغوط والابتزاز.
نحو استقلال استراتيجي عن واشنطن
إن ما جرى في البيت الأبيض يبعث برسالة واضحة لكل الدول التي لا تزال تراهن على الحماية الأمريكية: اللحظة التي تحتاج فيها واشنطن إليك ستعاملك كأداة، واللحظة التي تصبح فيها عبئًا ستُلقي بك جانبًا. هذا الدرس ليس جديدًا، لكنه يتكرر الآن بصورة أوضح، مما يستدعي مراجعة شاملة لسياسات العالم العربي، لا سيما فيما يخص الاعتماد على الغرب في بناء الأمن القومي.
إذا كان زيلينسكي قد اكتشف متأخراً أن أوكرانيا كانت مجرد ورقة ضغط في يد واشنطن، فإن على العرب، وخاصة الفلسطينيين، أن يدركوا أن مستقبلهم لن تصنعه الوعود الأمريكية، بل الإرادة الشعبية والاستعداد للمقاومة بكل أشكالها. فالتاريخ لم يعرف شعبًا نال حريته بالاستجداء، والكرامة الوطنية ليست هبة، بل تُنتزع انتزاعًا.
خاتمة
ما حدث في واشنطن ليس مجرد مشهد سياسي عابر، بل هو محطة مفصلية تكشف كيف تعيد القوى الكبرى ترتيب أولوياتها، وكيف تُختزل الدول الصغيرة إلى أدوات مرحلية. أما فلسطين، فلا تزال تمثل الاختبار الأهم للنظام الدولي، حيث تتجلى سياسات المعايير المزدوجة بشكل صارخ. وبينما يضغط ترامب على أوكرانيا لقبول التنازل، يمنح إسرائيل تفويضًا مطلقًا لمحو غزة من الخريطة. في هذا الواقع، يصبح واضحًا أن من لا يملك القوة لحماية نفسه، لن يحميه أحد.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط