ساد الأسد، فكانت المعارضة مجموعة من “متمرّدين” وفرعا “لتنظيم القاعدة.” سقط الأسد، فصارت المعارضة نفسها مجموعة “محاربين” و”قوات معارضة مسلحة”، و”أطرافا معنية”، تماماً كما صارت في الخطاب الغربي. هكذا هو الخطاب الصيني يتبدّل، بين ليلة وضحاها، وكما هي السياسة في هذا الكوكب: لا فرق بين خطاب أميركي أو صيني. ظاهريّاً، تقوم دبلوماسية الصين تجاه قضايا الإقليم على ادّعاء تمويهي، الحيادية وعدم التدخل. واقعياً، انحازت الصين للدكتاتوريات العربية ولإسرائيل، وهذا لا يختلف كثيراً عن نهج الولايات المتحدة في الجوهر، وان تباين في الدرجة.
في أثناء الصعود، لا تمارس الدول الحياد، بل البراغماتية الانتهازية، مستغلّة كل ما هو متاح أمامها لتحقيق تفوق نسبي، مقارنة مع نفسها أو مع الدول الأخرى في النظام الدولي. لم تمارس الصين، وهي دولة صاعدة، الحياد تجاه الصراعات ذات الأبعاد الدولية في إقليم الشرق الأوسط، وخاصة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والأزمة السورية. القاعدة هنا وجود علاقة طردية بين قوة الدولة وطبيعة دبلوماسيتها، فكلما زادت قوة الدولة صعوداً صارت سياستها الخارجية تجاه الصراعات الدولية أعمق في الاعتماد على المصلحة القومية، وأقلّ في الالتزام بالقيم الأخلاقية.
اتسمت الدبلوماسية الصينية تجاه الأزمة السورية في بدايتها بالحذر، حيث كان لديها مستوى معين من الشكوك بشأن بقاء نظام بشار الأسد. قدّمت الصين ثلاثة مقترحات لحل الأزمة السورية، في 2012، 2014، و2021، وجميعها تشترك في ثلاث نقاط رئيسية: حل النزاع بالوسائل السلمية، تحقيق وحدة سورية، وتقديم المساعدات الإنسانية. ولكن الاختلاف بين المقترحات كان جوهرياً، ففي أول مقترحين لعام 2012 و2014 دعت الصين إلى “الانتقال السلمي للسلطة”، الأمر الذي يشير إلى شكوك صينية آنذاك بمدى قدرة الأسد على البقاء. ففي عام 2012، طالبت الصين المجتمع الدولي بدعم “الانتقال السلمي للسلطة في سورية”، ودعت الأطراف السورية إلى “الالتزام بالقانون الدولي والإنساني، والامتناع عن العنف، والتأكيد على حق الشعب السوري في اختيار ممثليه بحرية ومن دون تدخل خارجي، واحترام قرارات الشعب السوري”. أوصلتها شكوكها إلى دعوة نائب المنسق العام والمتحدث باسم اللجنة التنسيقية الوطنية السورية لقوى التغيير الديمقراطي في الخارج هيثم منّاع لزيارة الصين ولقاء نائب وزير خارجيتها آنذاك تشاي جيون.
ببراعة براغماتية انتهازية، سوف تجد بكين أول فرصة لتطبيع علاقاتها مع النظام السوري الجديد، حتى لو كان “فرع تنظيم القاعدة”
كرّرت الصين ذلك في اقتراح عام 2014، الأمر الذي يؤكد أنها، إلى ذلك الوقت، كانت لديها شكوك حول قدرة النظام على الاستمرار، وقالت “إن عملية الانتقال السياسي في سورية يجب أن تكون بقيادة سورية، ويجب أن يُقرّر مستقبل سورية في نهاية المطاف الشعب السوري نفسه”.
أما الاقتراح الأخير لعام 2021، أزالت الصين شكوكها، وأكدت فيه على مبدأ “قيادة سورية، وملكية سورية”. جاء هذا الاقتراح ليمثل تحوّلاً في السياسة الخارجية الصينية تجاه الأزمة، بحيث أصبحت الصين أكثر ثقة بأن النظام باق. بناء على ذلك، انتقدت السياسات الغربية، وحملتها مسؤولية الأزمة الإنسانية في سورية، مبرّئة بشار الأسد من المسؤولية عن الوضع الكارثي في البلد. وقد ورد في الاقتراح بشكل صريح: “تعتقد الصين أن السبيل الأساسي لحل الأزمة الإنسانية في سورية يكمن في الرفع الفوري لجميع العقوبات الأحادية والحصار الاقتصادي المفروض على سورية”.
بالإضافة إلى ذلك، روّجت الصين لنظام الأسد ودعمته دبلوماسيّاً، عبر التأكيد على دوره في مكافحة الإرهاب وتصوير الثورة السورية مجرد نشاطات إرهابية. وجاء في الاقتراح: “يجب احترام الدور القيادي للحكومة السورية في مكافحة الإرهاب على أراضيها… ويجب الاعتراف بتضحيات سورية ومساهمتها في مكافحة الإرهاب”. يصبح التباين مع المقترحات السابقة واضحاً، فقد تراجعت عن الدعوة إلى “انتقال سياسي سلمي”، معتبرة ذلك وهماً، حيث قالت “تدعو إلى احترام خيار الشعب السوري والتخلي عن وهم تغيير النظام”.
روّجت الصين نظام الأسد ودعمته دبلوماسيّاً، عبر التأكيد على دوره في مكافحة الإرهاب وتصوير الثورة السورية مجرد نشاطات إرهابية
وفي عام 2023، نشرت بكين وثيقة “الهيمنة الأميركية ومخاطرها” متهمة واشنطن بشكل صريح بأنها “نظّمت الربيع العربي” Orchestrated the Arab Spring، وجلبت الفوضى والكوارث إلى بلدانٍ عديدة. ورأت الوثيقة أن ما يحدُث في سورية ليس ثورة، بل “حروب وكالة” أميركية. وبسبب “حرب الوكالة الأميركية على سورية” كما تصفها الصين، قالت إنه “منذ 2012، زاد عدد اللاجئين السوريين وحدهم عشرة أضعاف. بين عامي 2016 و2019، تم توثيق مقتل 33584 مدنياً في المعارك السورية، بما في ذلك 3833 قتيلاً بقصف التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، نصفهم من النساء والأطفال. وفي التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 أدت الضربات الجوية التي شنتها القوات الأميركية على الرقة وحدها إلى مقتل 1600 مدني سوري”. وفي 2024، نشرت وثيقة أخرى بعنوان “النفاق وحقائق المساعدات الأميركية” اتهمت فيها واشنطن ليس فقط بتنظيم الربيع العربي، بل وبرعاية الإرهابيين، ودفعهم إلى الإطاحة بالأنظمة العربية في ليبيا وسورية. وقالت الوثيقة: “قدمت [واشنطن] مساعدات مختلفة لتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية من أجل الإطاحة بنظام القذافي في ليبيا وحكومة سورية، وحرضت الجماعات الإرهابية على تنفيذ عمليات عسكرية لإطاحة الحكومة السورية”.
هذا التصعيد تجاه واشنطن، وترويج نظام الأسد، كانا دليلا على أن الصين أزالت الشك، وأصبحت متأكدة من أن هذا النظام لن ينهار. لكن، بعيداً عن المبالغة في تصوير التأييد، لم يتجاوز موقف الصين ودعمها النظام السوري في الصراع التصويت بـ”الفيتو” في الأمم المتحدة، وليس في كل الحالات من ناحية دبلوماسية، وعمليا وماديا مشاركة النظام في بعض المشاريع المتواضعة التي لا تساعد دولة تعاني من حربٍ 14 عاماً.
رأت الصين أن مسؤولية سلامة الأراضي السورية بقيادة نظام الأسد تقع على المجتمع الدولي الذي “يجب أن يحترم ميثاق الأمم المتحدة والقواعد الأساسية التي تحكم العلاقات الدولية، وأن يلتزم بالحفاظ على سيادة سورية واستقلالها ووحدتها وسلامة أراضيها، واتّباع نهج عادل ومتوازن وحيادي في التعامل مع جميع الأطراف في سورية، وتجنّب فرض حلول سياسية خارجية على سورية”. وفي مجال الدبلوماسية، لا تمارس الصين هذا الدور، فهو مُكلف، وينطوي على تحمّل مسؤوليات وتكاليف لا تريد الصين دفعها، ولذلك التزمت بخطاب واحد بشأن المسؤول عن حل الأزمة، وهو “الحفاظ على دور الأمم المتحدة قناةً رئيسية للوساطة”.
لا تختلف الصين عن الغرب في سياساتها تجاه القضايا الأكثر حساسية في الإقليم، تدعم الديكتاتوريات، تتبنّى الرواية الصهيونية عن”يهودية” الكيان الإسرائيلي
في السابع من شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري، أي قبل يوم من سقوط الأسد، ذكرت وكالة شينخوا للأنباء (المملوكة للدولة)، أن فرع “القاعدة” في سورية هو المسؤول عن شن الهجمات خلال الأسبوع الماضي. وبالنص: “جاء التوتر بعد أسبوع من النكسات التي تعرّضت لها الحكومة بعدما شنت هيئة تحرير الشام المرتبطة بتنظيم القاعدة هجمات كبرى في 27 نوفمبر في محافظة حلب الشمالية”. وفي يوم سقوط الأسد، عادت الصين الى خطابها الحذر لعام 2014، حيث عقبت باقتضاب “الصين تتابع الوضع في سورية عن كثب، وتأمل أن يعود الاستقرار في أقرب وقت ممكن”. في التاسع من ديسمبر/ كانون الأول، طُرح سؤال على الناطقة باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينغ، في المؤتمر الصحافي الدوري، مفاده: “انتهت حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، وحكومة جديدة على وشك التشكيل. ما هو تعليق الصين على الوضع الحالي في سورية؟ وهل ستجري الصين اتصالات مع الحكومة الجديدة؟”. أجابت: “تتابع الصين الوضع في سورية عن كثب، وتأمل أن تأخذ الأطراف المعنية بالاعتبار المصالح الأساسية للشعب السوري، وأن يتم التوصل في أقرب وقت ممكن إلى تسوية سياسية تعيد الاستقرار إلى سورية”.
لا تختلف الصين عن الغرب في سياساتها تجاه القضايا الأكثر حساسية في الإقليم، تدعم الديكتاتوريات، تتبنّى الرواية الصهيونية عن”يهودية” الكيان الإسرائيلي، “تقف مع الواقف”، وتصطف مع النظام الذي يسود بغض النظر عن سلوكه وطبيعته. وببراعة براغماتية انتهازية، سوف تجد بكين أول فرصة لتطبيع علاقاتها مع النظام السوري الجديد، حتى لو كان “فرع تنظيم القاعدة،” فكما قال مهندسها قبل أربعة عقود دنغ شياو بينغ: “لا يهم لون القط، أصفر أو أحمر، المهم أن يقبض على الفأر”.