يتحرك القلم اليوم ليكتب عن واقع مخزٍ، ويفجر التساؤل الصادم: لماذا لا نكرم الفاسدين؟ نعم، الفاسدين، أولئك الذين حصدوا الملايين بلا وجه حق، والذين يتصدرون المشهد في كل مؤسسة ثقافية أو اقتصادية أو اجتماعية، يُثني عليهم المجتمع بشكل ضمني دون حتى أن يشعر.
لقد تجاوز الفساد في بعض الهيئات الثقافية المبالغ المرصودة للإنشاءات نفسها. لماذا؟ لأن الفساد أصبح طبيعياً، ومألوفاً، بل ومُحتفى به تحت الطاولة.
يعلم الجميع أن الفساد ليس وليد اليوم، ولا بالأمس. تاريخ الفساد ممتد بامتداد التاريخ البشري، فما نراه اليوم ليس إلا تتويجاً لحضارات كاملة صنعت من الجشع والطمع عناوين رئيسية لأعمالها.
تجد في كل مؤسسة “الظرفاء” الذين يهمسون بنكات عن الفساد وكأنه مادة للتندر، مثل تلك القصة عن “القرشانة” وحيلتها الشهير بـ “مرمطون الست“، وكيف امتصا الأموال كما تلتهم النيران الحطب .. إنها مأساة حقيقية، وليست مجرد حكاية تُروى.
يستمر النظام في تشجيع الفساد بطريقة لا يمكن إغفالها. يدّعي الجميع الإصلاح ويعبرون عن قلقهم من الفساد، ولكن خلف الكواليس، يرتدي هؤلاء ثوب الفضيلة وهم يغرقون في الوحل ذاته الذي يدّعون مكافحته. الفساد لم يعد مجرد خرق للقانون، بل أصبح طقساً يُمارس يومياً دون حياء.
لقد خُدعنا جميعًا، نلبس أقنعة الفضيلة ونتحدث عن القيم الإنسانية النبيلة وكأننا نمثل أدوارًا زائفة في مسرحية كبيرة اسمها “الحياة”.
كلنا نشارك في هذا الجرم، كما قال الفنان الراحل أحمد زكي “كلنا فاسدون ولا أستثني أحداً“. لقد عبّر بكلمات قليلة عن حقيقة مرة يعيشها المجتمع؛ الفساد ليس خارجياً فقط، بل يسكن داخلنا جميعًا بدرجات متفاوتة.
تجرأ اليوم وأقترح الاحتفال بالفاسدين. نعم، دعونا نعقد لهم حفلاً تكريمياً كبيراً في هيئة مكافحة الفساد، نمنحهم شهادات تقدير على ما قاموا به من “خدمات جليلة” في تهديم القيم الأخلاقية والمجتمعية.
لماذا؟ لأن المطالبة بالعقاب أصبحت غير مجدية. الفساد تحول إلى كيان ضخم لا يمكن هدمه بمعاول القانون أو بنود الإصلاح.
الاحتفال بالفاسدين قد يكون الحل الوحيد لفضحهم أمام المجتمع، وجعلهم يدركون كم هو ضئيل ما جمعوه مقارنة بالقيم التي فقدوها.
يعتقد البعض أن الفساد مشكلة يمكن حلها عبر العقوبات والإصلاحات .. لكن الحقيقة المخيفة هي أن الفساد ليس مجرد تصرفات غير قانونية؛ إنه حالة عقلية جماعية، مشاعر طمع واستحقاق تتغلغل في كل زوايا المجتمع.
يدّعي الموظفون النزاهة في العلن، ولكن في الخفاء يُعمقون جذور الفساد عبر غض الطرف أو المشاركة المباشرة. ربما إذا قمنا بتكريم الفاسدين بشكل علني، وجعلناهم يرون قبح ما فعلوه، سنُحدث تحولاً حقيقياً. أو ربما، وهذا هو السيناريو الأكثر احتمالاً، سيستمرون في “لهط” الأموال وهم يضحكون في وجوهنا.
أقترح اليوم أن نعلم الفاسدين أن “القناعة كنز لا يفنى”. ربما يتعلمون درساً من تلك الحكمة القديمة التي لطالما سخروا منها.
ربما حين يدركون أن طمعهم لم يحقق لهم السعادة الحقيقية، سيدركون أن الطريق الذي اختاروه كان خطأً فادحاً. الفساد أغرق المجتمع بأكمله، وليس الفاسدون فقط هم المذنبون؛ نحن أيضًا مذنبون بصمتنا، بتواطئنا، وبإعطائهم الشرعية الضمنية.
يتساءل البعض عن أشد الناس صراخًا يوم القيامة. هل هو الفقير الذي ظلمته الحياة؟ أم المظلوم الذي سُرقت حقوقه؟ الحسن البصري أجاب ببلاغة حين قال: “أشد الناس صراخاً يوم القيامة؟ رجل رُزق بمنصب استعان به على ظلم الناس” .. أقول إننا نعيش هذا الصراخ يوميًا في حياتنا، لكننا نسكت عنه لأننا جميعًا نتورط في هذا الظلم والفساد.
كم من هؤلاء الرجال والنساء نراهم كل يوم في مناصبهم، وهم يستخدمون سلطاتهم لسحق من حولهم؟ كم منهم يعيشون في رغد الحياة وهم يغرقون في وحل الفساد؟ الصراخ يوم القيامة لن يكون صوتًا بعيدًا عن آذاننا، بل سيبدأ في الدنيا، في أرواح هؤلاء الذين فقدوا إنسانيتهم وهم يسعون خلف المال والسلطة.
علينا أن نعترف بأن الفساد أصبح جزءًا من نسيج حياتنا، وأن النفاق والازدواجية هما الأساس الذي يُبنى عليه مجتمعنا اليوم. نرتدي أقنعة الفضيلة، ولكننا نغرق في وحل الفساد. نتحدث عن القيم الإنسانية، ولكننا نعيش عكسها تماماً.
الحديث عن الإصلاح أصبح نوعًا من الترف الفكري الذي لا ينعكس على الواقع. ربما الحل الحقيقي هو فضح الفاسدين عبر احتفال تكريمي عالمي، ليعرف الجميع أن الفساد هو القاعدة، والإصلاح هو الاستثناء النادر.
حيث نصل إلى مرحلةٍ تتلاشى فيها الفروقات بين الخطأ والصواب، وبين الفضيلة والرذيلة .. فالفساد أصبح جزءًا لا يمكن فصله عن حياتنا اليومية، ولا يمكن التعامل معه إلا بالاعتراف بأننا جميعًا متورطون.
الحقيقة المرة هي أننا جميعًا متورطون بدرجات مختلفة .. موظفو الحكومة، والمسؤولون، وحتى المواطنون العاديون، جميعنا نساهم في استمرار هذه الدوامة.
لا نملك الشجاعة الكافية للتغيير ولا نملك الإرادة الحقيقية للإصلاح. نرتدي ثوب الفضيلة والإصلاح، لكننا نسير في اتجاه معاكس تمامًا.
فلا يبقى سوى سؤال واحد ماذا سنفعل عندما يغرقنا الفساد تمامًا؟ ربما، بحلول ذلك الوقت، سيكون التكريم هو الحل الوحيد المتبقي، ولن يتبقى سوى صدى صراخ الفاسدين وهم يدركون الحقيقة المرة .. أن كل ما جمعوه لن ينقذهم من الكارثة التي صنعوها بأيديهم.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط