لابد أن كثيراً من الوقت والجهد سوف يتم بذله في دراسة أسباب انهيار عائلة الأسد بعد 54 عاماً من الحكم، فيا ترى هل كان ضعف حلفائه هو السبب الأهم في نقطة التحول؟
هل السبب كان القضاء على قيادة حزب الله السياسية والعسكرية في بيروت بقصف إسرائيلي، واستعداد إيران لهجوم ثانٍ من جانب إسرائيل؟ أم هل أصبحت القوة الجوية الروسية منهكة مع استمرار الحرب في أوكرانيا؟ أم كان رفض قوات الحشد الشعبي العراقية التدخل للإنقاذ هو القشة التي قصمت ظهر البعير؟
في سوريا، فقد بدأت الثورة بالفعل بعد أكثر من 13 عاماً، حيث تعود المشاهد القادمة من دمشق إلى عصر منسي، من إسقاط التماثيل وفرحة الناس الذين يتسلقون الدبابات أو من يدركون ببساطة أنه لم يعد هناك من يراقبهم
هل سئمت جميع الأطراف المذكورة أعلاه من رفض الأسد لإجراء أي نوع من المحادثات، ناهيك عن التوصل إلى تسوية سياسية، مع مقاتلي المعارضة؟ أم هل أصبح محور المقاومة، الذي بنته إيران، سراباً فجأة؟ ولماذا سقطت حلب، ثاني أكبر مدينة في سوريا، دون إطلاق رصاصة واحدة؟
لقد توفي حوالي 910 أشخاص فقط حتى الآن منذ انهيار النظام، وهذه أرقام صغيرة نسبياً في بلد لقي فيه نصف مليون شخص حتفهم في حرب أهلية استمرت 14 عاماً وشرد فيها الملايين.
هل كانت الأسباب المذكورة أعلاه؟ أم أنه مجرد التوقيت الجيد يا ترى؟
لقد كانت هناك عوامل داخلية قوية يمكن أن تفسر الانهيار المفاجئ لجيش الأسد، فبعد أن استولت قوات المعارضة على حلب وحماة، رفع النظام المحتضر رواتب الجنود بما يعادل نصفها، الأمر الذي يدلل على ضعف الأجور وقلق النظام من انشقاق الجنود السوريين من خلال رشاوى مالية.
إن وصفة الاقتصاد المنهار مع الأخلاق المتدنية ورئيس يرفض الانصياع، هي نفسها مكونات الثورة التي انتشرت كالنار في الهشيم في مختلف أنحاء العالم العربي قبل 13 عاماً، فهل نشهد إذن ربيعاً عربياً يشتعل من جديد على جمر نار لم يتم إخمادها قبل سنوات؟
ربيع عربي جديد
لقد تم تأليف كتب وصياغة مهن منذ الربيع العربي الاول قبل سنوات، على افتراض أن التوق إلى ربيع ثانٍ لا يعدو أن يكون حلماً أحمقاً لديمقراطية ماتت قبل أن تنمو.
ومن ناحية ثانية، فالجرح الذي ما خرج من ميدان التحرير المصري لم يشفَ بعد، كما أن الثوار التونسيين، الذين اعتبروا أنفسهم أكثر تقدماً من إخوانهم المصريين، لم يستطيعوا النجاة من نفس الحفرة التي وقعت فيها مصر بعد الانقلاب، وكل هذا بأموال أمراء الخليج الذي أنفقوا ثرواتهم الفاحشة للتأكد من أن يتبع ذلك الربيع الشتاء!
طوال هذه السنوات، كانت سوريا بمثابة الدرس العملي الذي أراد كل العالم العربي تجنبه، فقد كانت الرسالة التي وجهتها كل حكومة من البحرين إلى المغرب لشعبها هي: “لا نريد أن ينتهي بنا الأمر مثل سوريا”.
هدية إسرائيل للشعب السوري المتحرر من الدكتاتور هي محاولة حرمانه من أي قدرة على الدفاع عن نفسه!
أما في سوريا، فقد بدأت الثورة بالفعل بعد أكثر من 13 عاماً، حيث تعود المشاهد القادمة من دمشق إلى عصر منسي، من إسقاط التماثيل وفرحة الناس الذين يتسلقون الدبابات أو من يدركون ببساطة أنه لم يعد هناك من يراقبهم.
وتظل الصورة الأكثر صدمة بين ذلك هي رعب الصور التي خرجت من سجن صيدنايا، حيث ظل السجناء الناجون محتجزين هناك لفترة طويلة حتى ظنوا أن الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد والذي توفي عام 2000، ما زال في السلطة وأن صدام حسين هو من حررهم!
وفي الدوحة، كان هناك شعور بتحول الصفائح التكتونية للمنطقة، إن صح التعبير، حيث كان يعقد منتداها السنوي، فوزراء الخارجية الذين دخلوا قاعة المؤتمر يوم السبت خرجوا منها يوم الأحد وكأنهم أشخاص جدد، فقد بدا التغير بشكل واضح على ملامح نجم المؤتمر المخضرم، وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، فخلال 10 ساعات من تأكيد لافروف لجمهوره بأن روسيا لن تتحدث مع الإرهابيين، كانت بلاده تستخدم الأتراك للحصول على ضمانات أمنية من هيئة تحرير الشام بشأن قواعدها البحرية والجوية!
ظهر عدم الارتياح على لافروف عند إجابته على الأسئلة المتعلقة بسوريا، وسرعان ما طالب بسؤاله عن أوكرانيا بدلاً من ذلك.
في تلك الأثناء، اندفع وفد إيراني وقد شحبت وجوه من فيه من اجتماع لآخر بين أروقة الفندق!
وعلى الطرف المقابل، عاد وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، الذي أمضى الأشهر الأربعة عشر الأخيرة من الحرب على غزة مهمشاً من قبل مجموعة الاتصال العربية التي سعى جاهداً إلى تشكيلها، إلى مركز الصدارة، فبين عشية وضحاها تقريباً، حولت الثورة السورية تركيا من مراقب بائس إلى لاعب في الشرق الأوسط مرة أخرى.
ليست زلة قدم
حتى اللحظة، تبدو تصرفات أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، الذي تم تصنيفه كإرهابي من قبل الولايات المتحدة والأمم المتحدة، مثالية بغض النظر عن نواياه الحقيقية.
إن التهديد الأعظم الذي قد يواجه خطط إسرائيل المنتظرة لفرض هيمنتها على جيرانها، هو ظهور جار إسلامي ناجح وقوي عسكرياً، يظهر كنموذج لبقية العالم العربي في قدرة شعب ضعيف على الإطاحة بالأقوياء
قامت هيئة تحرير الشام بطمأنة مسيحيي حلب، كما سلمت الحكم إلى رجال الشرطة بأسرع ما يمكن وتركت ضريح السيدة زينب في جنوب دمشق دون مساس، كما تجنبت المواجهة مع الجماعات العراقية شبه العسكرية.
لقد أبقى المقاتلون الطريق إلى اللاذقية مفتوحاً أمام جنرالات الجيش السوري المنسحبين للفرار، فقد تعلموا دروساً من العراق، ولم هناك نهب من المباني الحكومية.
بعد ذلك، ظهر الجولاني وهي يلقي خطاب النصر في الجامع الأموي التاريخي بدمشق المحاذي لمثوى صلاح الدين الأيوبي، مرتدياً الزي العسكري، ومؤكداً على أن هذا النصر لم يكن لسوريا فحسب، بل للمنطقة بأكملها، وأنه يمثل فصلاً جديداً في التاريخ.
وفي ظل ذلك كله، استغلت إسرائيل الفرصة لشن عملية عسكرية كبيرة لتجريد سوريا من السلاح!
هدية إسرائيل
في ليلة الثلاثاء، قصف الجيش الإسرائيلي 300 هدف عسكري سوري، من مطارات وموانئ في جميع أنحاء البلاد، واحتل أعلى قمة في جبل الشيخ، وهي سلسلة جبلية على الحدود السورية مع لبنان، كما دمر البحرية السورية في اللاذقية.
لقد دخلت الدبابات الإسرائيلية بالفعل إلى سوريا، حيث ادعى الجيش في البداية أنه سوف يعمل فقط في المنطقة الحدودية منزوعة السلاح، ولكن تقارير متعددة أكدت وجود دبابات إسرائيلية في قطنا، الموجودة في عمق 10 كيلومترات داخل الأراضي السورية وتبعد 25 كيلومتراً عن العاصمة دمشق.
أعتقد أنه من الواضح أن الحكومة الإسرائيلية التي لا تعرف إلا كيفية فتح جبهات عسكرية جديدة، تسعى إلى أن تفعل بدولة ذات سيادة ما فعلته في غزة والضفة الغربية المحتلة، فهدية إسرائيل للشعب السوري المتحرر من الدكتاتور هي محاولة حرمانه من أي قدرة على الدفاع عن نفسه!
وها هي الأزمة الأولى التي يواجهها الثوار حتى قبل تشكيل حكومة فاعلة، حيث أنه من الممكن أن يكون الهجوم العسكري الإسرائيلي في سوريا جزءاً من خطة بموافقة غربية من أجل ترويض الثوار من البداية، فما تفعله دبابات الميركافا قد يحدد السياسة الخارجية للجولاني حتى قبل أن يبدأ الحكم.
لا أعتقد أن سوريا مهما كان لونها، ناهيك عن سوريا الإسلامية، قد تتسامح مع ما تفعله إسرائيل بقدرتها على الدفاع عن أراضيها، فحماس، مثلاً، بدت واثقة من الاتجاه الذي سوف تتبعه سوريا بحلتها الجديدة فيما يتعلق بمنهجية تحرير فلسطين المحتلة، حتى قبل أن يحصل النظام الجديد على أراض جديدة خاصة به ليحررها.
من الجدير بالذكر أن عائلة الجولاني تنحدر من مرتفعات الجولان المحتلة، وهي التي سمح دونالد ترامب لإسرائيل بضمها في فترة ولايته الأولى.
لقد جاء في بيان صادر عن حركة حماس، أن “سورية سوف تواصل دورها التاريخي والمحوري في دعم الشعب الفلسطيني ومقاومته لتحقيق أهداف قضيته العادلة، مع تطلع إلى تعزيز دور سورية القيادي داخل الأمتين العربية والإسلامية، فضلاً عن دعمها للشعب الفلسطيني ومقاومته لتحقيق أهداف قضيته العادلة على المستويين الإقليمي والدولي”.
الثورة السورية، إذا ما استمرت على هذا الشكل، فقد أطاحت بقوة السلاح بالجيش والدولة العميقة والشرطة السرية، وفي حال نجاحها، فإن سوريا سوف تكون قد قدمت درساً قوياً في كيفية اكتساب حركة الثوار للشرعية الوطنية، فالنجاح في هذه المنطقة الهشة التي يفتقر حكامها إلى الشرعية يصبح أمراً معدياً
تعقيباً على البيان، أخبرني مصدر فلسطيني رفيع المستوى، أنه “يجب على كل شخص حر في العالم أن يكون سعيداً بما حدث في سوريا، سواء كان مسيحياً أو يهودياً أو مسلماً، لأن الوضع في سوريا كان سيئاً للغاية، وقد كان هذا أسوأ مثال على كيف يمكن أن يتم إبادة شعب جريمته الوحيدة هي الدعوة إلى الإصلاح والحرية والعدالة الاجتماعية”.
أضاف المصدر أن حماس لا تدعم فقط الثوار السوريين فحسب، بل أعربت الحركة عن سعادتها، لأن الناس قد أظهروا كيف يمكنهم إسقاط نظام ما، وأن الربيع العربي والقضية الفلسطينية هما وجهان لمعركة واحدة ضد الدكتاتورية والاحتلال.
أكد لي المصدر بأن الوجود الإيراني سوف يصبح محدوداً في المرحلة المقبلة، بعد أن تعطلت اتصالاته مع حزب الله، لكنه أصر على أن العلاقة بين إيران وحزب الله وحماس لن تتغير “حتى لو قال الغيرانيون أو قادة الحركة شيئاً آخر”.
ويتمحور بيان حماس حول التمييز بين أعمال المقاومة التي يظهرها ويدعمها شعب بأكمله، وبين المصلحة الوطنية لقوة أجنبية والتي تتمثل هنا بإيران، فلا ينبغي الخلط بين الاثنين، حيث أوضح المصدر لي بالقول: “التغيير يقوده الناس ولا تقوده قوى أجنبية، والشعب السوري سيبقى مع الفلسطينيين فحتى اللاجئين في المخيمات كانوا يهتفون من أجل فلسطين، وهذا لا يمكن أن يتغير”.
وأكد المصدر على أن ذلك” سوف يكون له تأثير على مفهوم المقاومة، وسوف يكون له تأثير على اللاعبين الرئيسيين في المنطقة مثل إيران أو غيرها”.
أشار المصدر أيضاً إلى عدم لعب الأسد أي دور في المواجهة مع إسرائيل التي ضربت طائراتها أهدافا لحزب الله والحرس الثوري الإيراني في سوريا.
علاوة على ذلك، فإن هذه التغيرات الزلزالية تحصل اليوم في الوقت الذي تحاول فيه إيران التركيز على 3 عمليات مختلفة في آن معاً، من أجل مكافحة التجسس ووقف تسرب المعلومات الاستخبارية إلى إسرائيل، وهي عملية في إيران لاكتشاف كيفية اغتيال زعيم حماس إسماعيل هنية في دار ضيافة تابعة للحرس الثوري الإيراني، وعملية التحقيق في كيفية اغتيال زعيم حزب الله حسن نصر الله وخليفته المقصود، وعملية حول عدد الضربات في سوريا والعراق.
لا شك أن إسرائيل كانت فعالة في إضعاف الأصول العسكرية الإيرانية في سوريا لدرجة أن هناك مخاوف قوية في داخل الحرس الثوري من أن تحركاتهم قد باتت مكشوفة للجواسيس الإسرائيليين في قوات الأمن والمخابرات السورية.
ليس هناك من يجادل في أن انهيار الأسد يمثل خسارة استراتيجية كبيرة لإيران، لكنه أبعد ما يكون عن تفكيك محور المقاومة، لأن حزب الله والجماعات المسلحة العراقية مثل كتائب حزب الله وأنصار الله الحوثيون في اليمن لا تزال تعمل.
أما فصائل المقاومة الفلسطينية، فهي واثقة من أن سورية يمكن الرهان عليها فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، والحقيقة أن ذلك لم يستغرق وقتاً، فقد دخلت سوريا سريعاً في ملف الحفاظ على مصلحتها الوطنية بطرد الإسرائيليين من أراضيها.
إن التهديد الأعظم الذي قد يواجه خطط إسرائيل المنتظرة لفرض هيمنتها على جيرانها، هو ظهور جار إسلامي ناجح وقوي عسكرياً، يظهر كنموذج لبقية العالم العربي في قدرة شعب ضعيف على الإطاحة بالأقوياء.
لن يكون الجولاني زعيماً يسهل على الدبابات الإسرائيلية تخويفه، إلا إذا كان بالطبع هو التالي على قائمة الأهداف التي يجب اغتيالها!
دروس مستفادة
إذا تبين أن هذا يشكل بالفعل بداية فصل جديد في الربيع العربي، فسوف نكون قد تعلمنا درساً أساسياً واحداً على الأقل، وهو أن الثوار في مصر وتونس لم يكونوا ثوريين بما فيه الكفاية.
ليست الثورة المسلحة جزءاً الحمض النووي لجماعة الإخوان المسلمين، إن صح التعبير، بل على العكس تماماً، فقد استمر إغراء جماعة الإخوان المسلمين بتأكيدات المخابرات العسكرية المصرية بأن الجيش سوف يسمح لحكومة منتخبة بحرية بالحكم، وبحلول الوقت الذي أدرك فيه الرئيس الراحل محمد مرسي أنه أسير لدى السيسي، كان الأوان قد فات.
لقد دفعت الثورة في مصر وتونس ثمناً باهظاً لإبقاء أعدائها في عالم الأعمال، فقد كانت أدواتهم سياسية فقط، وحاولوا تجميع قطع الديمقراطية المسطحة، من جمعية دستورية إلى دستور جديد ثم انتخابات حرة، وفي هذه الأثناء، كان الجنرالات يضحكون ويعدون لركل هذا البناء الديمقراطي المصنوع من الورق ببساطيرهم العسكرية!
أما الثورة السورية، إذا ما استمرت على هذا الشكل، فقد أطاحت بقوة السلاح بالجيش والدولة العميقة والشرطة السرية، وفي حال نجاحها، فإن سوريا سوف تكون قد قدمت درساً قوياً في كيفية اكتساب حركة الثوار للشرعية الوطنية، فالنجاح في هذه المنطقة الهشة التي يفتقر حكامها إلى الشرعية يصبح أمراً معدياً.
لا بد أن طغاة المنطقة اليوم يخططون بهدوء لكيفية إخراج هذه التجربة عن مسارها كما فعلوا بنجاح قبل عقد من الزمن، فهل ينجحون أم أن أدواتهم المضادة للثورة قد عفا عليها الزمن؟
تعتمد إجابة هذا السؤال إلى حد كبير على الشعب السوري نفسه، فقد فات الوقت الذي يعيد فيه المصريون والأردنيون والعراقيون التفكير في فهمهم للثورات القوية، لأنهم يتضاءلون يوماً بعد يوم لكنهم لا يموتون.