منذ أيام قليلة، عقد لقاء ثان لتدشين أو بالأحرى تسويق اتحاد مصر الوطني. اللقاء، من حيث الإجراء والنشأة، لا غبار عليه، فتأسيس الأحزاب هو حق للجميع، وفق ما جاء بالدستور، ما دامت تلك الأحزاب متوافقة مع الشروط التي جاء بها الدستور والقانون. لكن ما يبدو أنه يستحق وقفة هو تلك الكلمات التي قالها الحاضرون، من قادة التنظيم الجديد أو المؤسسين خلال هذا اللقاء: “نحن في حاجة لكيان أو حزب، ينطلق من المصريين أنفسهم، ويضم كل الأطياف” “ليس بهدف أن يكون حزب موالاة للدولة، بل عليه أن يحتفظ بمسافة واحدة بين الموالاة والمعارضة.”
هذه الكلمات بالطبع، لا تقصد أن تقول إن باقي الأحزاب القائمة لا تضم مصريين، وإن كانت في المعنى الحرفي تشير إلى ذلك. أيضا فإن انضمام كل الأطياف لأي حزب- كما تقول تلك الكلمات- يخرجه من كونه حزب طبيعي إلى كونه حزب شعبوي تعبوي، مثله كالاتحاد الاشتراكي الذي يضم العمال والفلاحين والمثقفين والرأسمالية الوطنية والجنود، وهذا التنظيم هو ما يسمى في النظم الحزبية بالحزب القائد في المنظومة الحزبية القائمة.
بالطبع، مثل هذا الغرض لا يُعتقد أنه يفي بالمطلوب لفتح المجال العام، والهادف إلى إنعاش الحياة الحزبية، وأمور أخرى عديدة متصلة بحرية الرأي والتعبير، وحرية الانتخاب والتظاهر، واستقلال القضاء والإعلام.. إلخ. بعبارة أخرى، نحن أمام تأسيس تنظيم جديد يشبه- كما قال الحديث السابق- ما كان قائما في حقبة الستينيات، أي غرضه وفقط، أن يتماهى مع المصطلحات القائمة اليوم، والتي تحمل معان مائعة وغير محددة، مثل دعم القيادة السياسية، الاصطفاف والتوحد خلف الدولة المصرية، وغيرها من المصطلحات التي تعني الحشد والتعبئة.
ما من شك، أن الأحزاب التي تقام في الدول المتمدينة غرضها الرئيس الدفاع عن الدولة، لأنه بدون الدولة لا وجود للأحزاب، ولا وجود لشعب أو سيادة. من هنا فإن الأحزاب التي تؤسس هي كذلك لتحمي الدولة من مخاطر الإرهاب والتشظي والعنف، وتحافظ على مدنيتها من أي تيار ديني أو عسكريتاري، لما في ذلك- الدولة غير المدنية- من محو لفكرة الحزبية بداية. وكل ما سبق ينصب، ولا يختلف حتما عن بديهية حماية كافة تلك التنظيمات غير الرسمية لأراضي الدولة وجيشها وأمنها القومي.
بطبيعة الحال، هناك أفكار تصل لحد التباين الكبير بين الأحزاب لتنفيذ كل ما يهدف لحماية الدولة. النظام السياسي السوي هو من يضع محظورات محدودة متفق عليها دستوريا، وما دونها وهو عادة كثير وغير محدد العدد، يُشرع الخلاف عليه. أما عكس ذلك، فهو منبت ومنبع الشمولية والتسلط.
واحد من أهم ما كان مثار العجب هو ما صرح به عاصم الجزار وزير الإسكان السابق، عندما ذكر منتقدا الأحزاب السياسية المصرية بقوله، “إن غالبية الأحزاب على مدار سنوات طويلة، كانت وسيلة للصعود إلى السلطة، وهو ما لا ينشده الحزب الجديد”. هذا الموقف لا يمكن أن يرد عليه إلا بقول الفنانة المبدعة ماري منيب في مسرحية إلا خمسة “أنتي جاية تشتغلي إيه!!”. فالأحزاب نشأت؛ كي تكون وسيلة منظمة للوصول إلى السلطة كبديل عن العنف، وذلك عبر آلية الانتخابات، أما وأن تنشأ الأحزاب كي تفقد هدفها المبدئي، فإن هذا الأمر يشي بأننا أمام حالة كرتونية جديدة، إلى جانب الحالات الكرتونية القائمة الحالية. يستطرد “الجزار” في كلماته المرسلة بقوله: “الكيان الجديد مشكل بصورة بيت خبرة لدعم الدولة”، وهذا أيضا خارج السياق الوظيفي للأحزاب السياسية، التي أسمى وظائفها، أنها تحل محل القيادة السياسية القائمة، عبر الطرق المشروعة، من خلال طرح البدائل والرقابة على الأداء، وجذب الناس لتلك البدائل؛ بغية إبدال السلطة القائمة بسلطة جديدة، تسعى لتحقيق برامجها التي انتخبت من أجلها.
الأحزاب السياسية المصرية مشكلتها الرئيسة، أنها أحزاب تعمل في بيئة داخلية وخارجية رثة. فداخليا تفتقد كل الأحزاب القائمة إلى واحد أو أكثر أو كل الصفات المتعلقة برشادة الأداء التنظيمي، والتواجد بين الجماهير، وكثافة العضوية، وحوكمة الشؤون الحزبية المالية، والديموقراطية في صنع القرار أو اختيار القيادات أو كلا الأمرين، والانتشار الجغرافي بعدم التركيز على العاصمة والمدن الكبرى فقط.
أما أساس المشكلات الخارجية للأحزاب، فيرتبط جلها بغلق المجال العام، أو بمعنى أكثر وضوحا بالبيئة الشمولية، وربما التسلطية التي تعمل فيها. هذا الغياب للمناخ الديموقراطي، يجعل الأحزاب جزءا أصيلا من مؤسسات الدولة الرسمية، بدلا من كونها مؤسسات غير رسمية معترف بها من قبل النظام السياسي. فهي بهذا الوصف السلبي كاتجاه عام، لا تخالف تعليمات الأمن، وتتحرك بعد أن تستشف رغبة السلطة، وربما يعلم قادتها من هم حلقات الوصل داخل الحزب بينهم وبين السلطة عامة والأمن، خاصة إن لم يكن بعض هؤلاء القادة هم أداة للأمن أصلا. ما يشجع على كل ذلك المناخ المقيد المرئي في كافة مناحي الحياة، داخل مجلس النواب وفي مجال القضاء وفي الإعلام وفي أقسام الشرطة والسجون ونظام القوائم المطلقة؛ الهادف لتعيين نواب البرلمان، بدلا من القوائم النسبية المنعش للحياة الحزبية.
عندما ترى الأحزاب هذا المناخ العام المقيد إجمالا، فإنها ستسبح حتما مع التيار؛ خوفا من عواقب السباحة ضده. ومما لا شك فيه، أن الإخوان المسلمين لعبوا دورا مهما في استشراء هذا المناخ، على الأقل عقب أحداث يونيو 2013 مباشرة، إذ ساهموا في أن السلطة أصبحت متشككة في الكثير من الأشياء، ما جعل المجال العام موصدا. لكن هذا الأمر الذي يبدو عند البعض مبررا، شيء، واستمراء الفزاعة الإخوانية إلى اليوم شيء آخر.
كل ما سبق من قيود، لا يجب أن يلفت النظر عن قيد جوهري ومهم، وهو أن مدنية الدولة المصرية، لا تعني فقط عدم أخونتها أو سلفنتها، بل تعنى حِرفية القوات المسلحة المصرية كقوة دفاع صلبة، تزود عن أمن الوطن ضد الأعداء فقط، لا دخل لها بأي شأن اقتصادي أو اجتماعي إلا في حالة الخطب والنواكب الماسة بأمن الدولة كالحروب والكوارث الطبيعية على سبيل الحصر. بعبارة أخرى، فإن أي نظام سياسي يجعل المجتمع متعسكرا، هو بالتأكيد أمر غير محبب، ومضر بمدنية الدولة، ويجعل الأحزاب السياسية تعيش حالة رعب، من أن تختلف أو أن تطرح بدائل أو تعلن على الملاء، أنها تسعى إلى الوصول إلى السلطة. من هنا يلحظ المرء المتابع والمدقق لشؤون الأحزاب السياسية المصرية مصطلحات غريبة في سردية الأحزاب المصرية الحالية، تتعلق بأمرين، أولهما: الاصطفاف، ما ينفى الفكرة الحزبية، حتى بالمعنى اللغوي، والتي تشير إلى البدائل والسيناريوهات المقابلة، لما تطرحه السلطة التنفيذية. وثانيهما: دعم الدولة المصرية، ما ينفي فكرة عدم الربط الطبيعي والبديهي بين الدولة والقيادة السياسية، ويُرجع المرء إلى فكرة ملك فرنسا لويس الرابع عشر 1661- 1715 “أنا الدولة والدولة أنا”.
وظيفة الأحزاب السياسية هى الارتقاء بكل ما هو مرتبط ببيئتها الداخلية، لكن هذا الأمر يتواكب حتما مع البيئة الخارجية التي تجعل الآخربن أوصياء عليها، عندئذ فقط يمكن أن نبدأ حياة حزبية سليمة، ونرتقي بنظام حزبي جديد ومتمدين.
المصدر/ مصر 360
نسخ الرابط تم نسخ الرابط