الرئيس الأمريكي المنتخب حديثا دونالد ترامب، يتخذ هذه الأونة مواقف وقرارات مثيرة للجدل. يعتمد ما يتخذه ترامب من مواقف وقرارات على صورته السابقة لدى حكام العالم والشعوب المختلفة، بكونه رجل جانح متقلب الأمزجة.
ترامب يتصور أن إنطباع الناس عنه بكونه عصبي المزاج ومتوتر ويتصرف كالبحر الهارد، يجعله يفعل ما يحلو له دون النظر إلى أية اعتبارات تخص مصالح الأخرين، وأفكارهم ومعتقداتهم، بل والمبادئ والمثل التي مردت عليها الإنسانية، وجاء الكثير منها في ميثاق الأمم المتحدة، والشرعة الدولية لحقوق الإنسان الممثلة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية.
ما يتخذ من مواقف وقرارات يصيب قيم العدالة والمساواة التي اعتاد الناس اعتقادها عن الديمقراطية الأمريكية وكأنها المثل الأعلى والقابل للمحاكاة في ذلك، وهي ليست كذلك على الإطلاق. ما حدث مؤخرا هو مجرد أمر كاشف، فالأمر اليوم أصبح خلافا مع هذه المبادئ والقيم في العلن وبوضوح. فرفض حق تقرير المصير للشعوب، والإعلان الفاضح عن خرق قرارات الأمم المتحدة، ومحاربة المحكمة الجنائية الدولية وقبلها بعض المنظمات الدولية المتخصصة بعد اتهامهم بمعادة السامية وإسرائيل تحديدا. كل ما سبق ينهي في الواقع النظام الدولي، لأن أنهيار قيم العدالة والمساواة يفضي آليا لانهيار النظام الدولي، خاصة وأن الأخير عجز عن مواجهة دولة صغيرة فيه شرعنت منذ تأسيسها الاحتلال والاستيطان، ووجدت من يساعدها بكل قوة، في تحد صارخ للقيم الإنسانية.
بالأمس وإبان فترة رئاسته الأولى للولايات المتحدة 17/2020، صدق دونالد ترامب على نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وهو ما لم يقو أي رئيس أمريكي سابق على فعله، لكونه يعنى إغضابا للعرب، لأنه يعني إعلانا بالأعتراف بضم القدس وشرعية الاحتلال الصهيوني، ومن ثم إنهاء أي حل ممكن ومحتمل للقضية الفلسطينية، ورفضا للقرارات الأممية الصادرة بشأنها. قام أيضا خلال تلك الفترة بالتصديق على ضم الجولان واعتبارها جزء لا يتجرأ من إسرائيل، الرئيس الأمريكي كذلك قام بإلغاء الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة وإيران عشية انتخابه عام 2017.
ابتزاز وبلطجة
منذ أيام قليلة أثار الرئيس الأمريكي وقبل حفل تنصيبه في 20 يناير2025 لغطأ كثيرا في العلاقات الدولية، إذ جاء بعدة مواقف، تصرف خلالها كما لو كان بلطجيا أو شبيحا أو فتوة في حي شعبي يمارس جبروته مستندا لمنصبه أمام سكان الحي، أو على أفضل تقدير كما لو كان مدرسا شريرا يرفع العصى في وجه تلاميذه الضعفاء بمواقف ومطالب تبدو أكثر غرابه، عساهم أن يستعدوا للتنازل في مواجهة هذا الشرود والمجون الفكري.
ترامب حلف شمال الأطلسي
اليوم يبتز الرئيس الأمريكي أوروبا بعديد المواقف، صحيح أنه لم يقرر أمورا ما على الأرض تثير مشكلات، لكن مواقفه السابقة والحالية من ضرورة أن تقوم أوروبا برفع موازنتها الدفاعية في حلف شمال الأطلسي إلى 5% من الناتج المحلي الأجمالي، وأن تدفع أوروبا ثمن دفاع الولايات المتحدة عنها، وإبقاء المظلة النووية الأمريكية تغطيها في مواجهة روسيا الاتحادية، وإلا ستضطر الولايات المتحدة لتخفيض النفقات الدفاعية الخاصة بها في حلف الأطلنطي، كل ذلك جعله يُنظر إليه في أوروبا على أنه شخص باحث عن المتاعب.
كندا الجاره الشمالية
أنذر ترامب كندا جارته الشمالية بحرب تجارية لا سابق لها. قال عنها أنها يجب أن تكون الولاية الـ51 لبلاده، وأن الكثير من الكنديين يرغبون في اندماج بلادهم في الولايات المتحدة، رغم أن استطلاع رأي جرى مؤخرا أشار إلى أن هؤلاء لا يتعدون الـ13% من الكنديين. في التفاصيل يرى ترامب أنه “إذا اندمجت كندا مع الولايات المتحدة فلن تكون هناك تعريفات جمركية، ستنخفض الضرائب بشكل كبير، وسيكونون محميين تماما من تهديد السفن الروسية والصينية التي تحيط بهم باستمرار” “الولايات المتحدة لم تعد قادرة على تحمل العجز التجاري الضخم والإعانات التي تحتاجها كندا للبقاء، جاستين ترودو (رئيس وزراء كندا)كان يعلم هذا ولذلك استقال” وبطبيعة الحال، لم ينس ترامب مع حججه السابقة أن يرفع عصى الوعيد بالتهديد بفرض عقوبات جمركية بنسبة 25% على جميع الصادرات الكندية للولايات المتحدة، إذا لم تتخذ الحكومة الكندية إجراءات لوقف ما يسميه تدفق المهاجرين والمخدرات لبلاده.
مع الدانمرك والمكسيك وبنما
الدانمراك هي الأخرى لم تسلم من لسان ترامب ووعيده. فهذا البلد هو ككندا يفترض أنه حليف للولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي، ما يجعل لبلاده حقوق وألتزامات متبادلة معها، ويعطي للولايات المتحدة فرصا للتواجد بموجب الحلف على أراضى باقي الحلفاء، إلا أن الرجل أبى إلا أن تكون الهيمنة كاملة، حتى لو وصل الأمر إلى الاحتلال، ضاربا عرض الحائط بالمواثيق الدولية والإقليمية والمعاهدات الثنائية. يقول ترامب أن من مصلحة الدانمرك التنازل عن جزيرة جرينلاند ذات الحكم الذاتي لصالح الولايات المتحدة بدلا من أن تترك مطمعا للصين، وهو يعتبر أن التواجد العسكري الأمريكي بالجزيرة بموجب اتفاق ثنائي مع الدانمرك غير كاف، وأنه يتحتم ضم الجزيرة للولايات المتحدة ولو باستخدام القوة المسلحة.
مع المكسيك بدأت المشكلة أكبر وأقدم بسبب مواقف ترامب التي انتخب على أساسها، والمتعلقة بمواجهة الهجرة، وترحيل المهاجرين غير النظاميين، وكذلك اتخاذ إجراءات على الحدود كبناء حاجز أمنى لمئات الكيلومترات بين البلدين، لمواجهة تصاعد الهجرة. أما أخر المواقف فكانت السعي لتغيير المسميات الجغرافية التقليدية بإعلانه في خطاب تنصيبه تغيير أسم خليج المكسيك الرابط بين البلدين من جهة الغرب إلى الخليج الأمريكي، ناهيك عن النية في فرض رسوم جمركية على الواردات من المكسيك بغرض جعل الميزان التجاري في صالح الولايات المتحدة بشكل أكبر.
لم يختلف الأمر كثيرا مع بنما، إذ هدد ترامب بضم القناة والسيادة عليها، خشية من هيمنة الصين عليها، وطلبا لتخفض دولة بنما رسوم عبور السفن الأمريكية التي يصل عددها إلى نحو 73% من السفن العابرة. جدير بالذكر أن الولايات المتحدة فقدت السيطرة على القناة بعد أن كانت تديرها منذ افتتاحها عام 1914 حتى سبعينات القرن الماضي.
مصر والأردن والسعودية
لكن المفارقة الغريبة في مواقف ترامب الشاردة، كانت تجاه كل من مصر والأردن على السواء، فبعدما أعلن ترامب إبان حملته الانتخابية أن “إسرائيل تبدو صغيرة على الخارطة، ولطالما فكرت كيف يمكن توسيعها”، ذكر منذ عدة أيام أن على مصر والأردن قبول مئات الآلاف من المهاجرين من غزة، لكون الحياة في هذه المنطقة أصبحت مستحيلة، وكأن ترامب يتعاطف مع حال الفلسطينيين الذين أصبحوا بلا مأوى بسبب الإبادة الجماعية والعقاب الجماعي الذي حدث إبان حرب غزة على مدى ما يربو من 470 يوما!!.
بالطبع تتماهى مواقف ترامب مع مواقف اليمين الصهيوني الداعية إلى التهجير القسري، وتفريغ تلك المناطق بغرض التوسع وبناء المستوطنات. وهي مواقف تنهي بشكل عملى القضية الفلسطينية وحل الدولتين. كما تفضي تلك المواقف إلى الزيادة من حجم مشكلة اللاجئين وتزيد من أعمال نهب إسرائيل للموارد الاقتصادية العربية، وتُمعنها في انتهاك المقدسات، وغيرها من السياسات التي مردت عليها منذ نشأتها عام 1947 عبر المذابح والتطهير العرقي وقتل وتشريد السكان أصحاب الأرض.
مواقف ترامب من دعم إسرائيل اللامحدود ترتبط بشكل رئيس بما يسمى في الولايات المتحدة بالمسيحية الصهيوينية، الداعية إلى دعم إسرائيل وظهور هيكل سليمان بغية عودة المسيح. ومن ثم فإن مواقفه الداعمة للكيان الصهيوني وإمداده بالسلاح والعتاد ترتبط بتقوية ذلك الكيان، وتوسعه على حساب أصحاب الأرض، حتى لو كان عبر التغاضي عن تطبيق القرارات الدولية وعلى رأسها قرار مجلس الأمن رقم242 الداعي للانسحاب خلف خطوط 5يونيو1967، وقرار194 عام1948 والداعي لعودة اللاجئين الفلسطينيين وتعويض بعضهم. جدير بالذكر أن القرار الأممي المنشئ للكيان الصهيوني في نوفمبر1947، تم تجاوزه أصلا عام 1948 باحتلال إسرائيل النقب والجليل وغيرها من المناطق.
مع بلدان الخليج وخاصة المملكة العربية السعودية، يقوم ترامب بابتزاز هذه البلدان سعيا لنهب ثرواتها، فهو يهدد السعودية تحديدا بالفزاعة الإيرانية. في المواقف المعلنة يبدو أن السعودية قد خضعت لابتزازه منذ فترة رئاسته الأولى عام 2017، وهي اليوم على الأرجح ستكمل الطريق بدلا من أن تقوم باحتواء إيران.
ردود أفعال متباينة
وهكذا، طالت مواقف ترامب الشاردة، ولكونها عامة الكثيرين في الشرق والغرب، ما جعلها تغير من مواقف الحكام تجاهه. فبعد أن استوعب الجميع الصدمة، انتقل بعضهم إلى حالة التبلد، ثم بدأ بعضهم ينتقل لمرحلة أعلى وهو الرد المباشر بالرفض، وبعضهم الثالث للاستعداد للمواجهة بكافة الوسائل. ويعتقد أنه بعد قليل ستتألف فئة رابعة جديدة تسعى إلى التحالف والتعاضد حتى بين ما كانوا أعداء منهم بالأمس لكي يقفوا في مواجهته.
في التفاصيل كانت مواقف الأنداد أو من شملهم خطابات وشعارات ترامب قوية. فوزير خارجية كندا ميلاني جولي قال “لن نتراجع أبدا في مواجهة التهديدات” بعد ذلك بأيام قليلة قال رئيس وزراء كندا المستقيل “لن تكون كندا أبدا جزءا من الولايات المتحدة”.
رئيسة وزراء الدانمرك سارعت للاتحاد الأوروبي وقيادة حلف شمال الأطلسي، ووجدت مساندة واضحة من فرنسا وألمانيا وغيرها من البلدان، التي أعربت عن رفضها سياسة القوة والضم والاحتلال.
مصر والأردن أعادا رفض مخططات التهجير، وبدا كلاهما متسلحتين بالرفض الشعبي له، ومن ثم العودة للحاضنة الشعبية في هذا الموقف تحديدا تجاه القضية الفلسطينية.
السعودية يبدو أنها أول من سيسقط في الاختبار رغم رؤيتها للأخرين يقفون موقفا جسورا أمام بلطجة ترامب. وواقع الأمر أن السعودية لو أنفقت عُشر ما أنفقته على مواجهة إيران على احتواء إيران، لما خضعت للابتزاز الأمريكو-صهيوني.
خاتمة
كل ما سبق من أمور تجعل هذا الرئيس تنتظر فترة رئاسته قلاقل لا قبل لبلاده بها، قبل الأخرين. يبدو أنه من جراء تلك الحماقات سيحد من تنافر الخصوم، بل سيوحد الأعداء، ولربما يعقد بعضهم اتفاقات مع روسيا والصين في مواجهته. المؤكد أن كل ما سبق من مواقف وردود أفعال سيجعل العالم مع وجود هذا الرجل على فوة بركان، ومن ثم عدم وجود أية مصداقية للشعارات التي رفعها إبان حملته الانتخابية، بسيادة السلام العالمي إبان فترة حكمه، وإنهاء موجات الحروب القائمة، وجلب الرخاء للمواطن الأمريكي.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط