تحولت قصور وبيوت الثقافة في الأقاليم إلى مجرد أطلال، تمثل رمزا لانهيار المنظومة الثقافية في مصر، في واقع لا يرحم ولا يعترف بأي نوع من التقدم.
لن أتحدث عن الأسباب التقليدية أو الأعذار المعتادة، بل سأقول بوضوح أن ما يحدث الآن هو جريمة ثقافية بحق الأمة .. تتكالب على هذه المؤسسات تحديات لا حصر لها “الإهمال، الفساد، الفقر المالي، والانحلال المؤسسي”.
يتعالى الصخب حول الحاجة إلى التطوير، لكن في النهاية، لا شيء يتغير، والنتيجة هي مجرد زيادة في عدد المنشآت التي تم غلقها أو تحويلها إلى أماكن مؤقتة بلا أي أثر حقيقي للثقافة.
هذا التدمير الممنهج للقصور الثقافية يعكس فشلًا ذريعًا على مستوى السياسات والتخطيط. حيث تعمل الهيئة على تقليص الدعم والتلاعب بالميزانية دون النظر إلى ما تحتاجه تلك المراكز من تطوير حقيقي.
السؤال الأبرز هنا هو: هل سيظل هذا الخراب قائماً؟ ومتى ستعود الأنشطة الثقافية للمجتمع المصري من جديد؟
تكمن الكارثة في أن هذه المواقع الثقافية كانت، في يوم من الأيام، أماكن للابداع والفن، ثم تحولت اليوم إلى بيئة مواتية للتهميش والإهمال.
التحدي الأكبر يكمن في أن 600 قصر وبيت ثقافة، التي تشكل نصف مشهد الثقافة في مصر، أصبحت أشبه ببيوت مهجورة لا تجذب أي نوع من الاهتمام.
إنها حقيقة مأساوية أن نرى هذه الأماكن تُغلق تدريجياً، وتتحول إلى مجرد مساحات مغلقة لا قيمة لها .. لا أحد يهتم بالمسرح الذي أغلق أبوابه بسبب الانهيار أو الترخيص غير المستوفى، أو بالأنشطة التي كانت تُمارس في قاعات مليئة بالأنشطة التي تشبع الذوق والفكر.
تستمر الأوضاع في التدهور على الرغم من وعود المسؤولين المتكررة، لكن الحقيقة التي يجب مواجهتها هي أن هناك تقاعسًا كبيرًا في تنفيذ أي خطة حقيقية لتطوير هذه المواقع.
لا توجد سياسات واضحة ولا استراتيجيات فعالة لتمويل المشاريع أو ترميم المباني. 92.5% من ميزانية قصور الثقافة ذهبت إلى البدلات والأجور دون أي استثمار حقيقي في البنية التحتية أو في توفير أنشطة فنية حقيقية للمواطنين.
أين هو الدعم الفعلي للثقافة في الأقاليم؟ أين تلك الميزانيات التي تذهب في اتجاهات أخرى دون أي قيمة مضافة؟
إذا نظرنا إلى واقع الحال، سنجد أن هناك مشكلة أخرى تتفاقم، وهي أن العديد من الأماكن قد أصبحت تحت رحمة الإيجارات التي لم تعد كافية لتغطية الحد الأدنى من النشاط الثقافي.
ببساطة، تحولت الثقافة إلى أمر ثانوي لا يرقى إلى كونها أولوية لدى المسؤولين، مع أن البلاد في حاجة ماسة إلى إعادة إحياء الأنشطة الثقافية والفنية كمحفز اجتماعي واقتصادي. لم يتبقَ لهذه المنشآت الثقافية من دور سوى أنها تستمر في الدوران في دوامة من الفشل المتراكم.
لننظر إلى الإسكندرية كمثال صارخ على ما يحدث. أصبح معظم مراكزها الثقافية مغلقًا، وأصبح عدد المراكز العاملة فيها لا يتجاوز العشرة، مع أنها كانت في يوم من الأيام مركزًا نابضًا بالحياة الثقافية والفنية.
وعندما نقول إن العديد من قصور الثقافة في الإسكندرية تعاني الإغلاق بسبب الانهيارات والتدهور، فإن ذلك يعني أن الثقافة هنا قد ماتت فعليًا.
لم تعد القصص التي كانت تُحكى على خشبة المسرح هي تلك التي ستلامس قلوب الجماهير، بل أصبح القصر أشبه بموقع مهجور يعاني السكون.
أصبح قصر ثقافة سيدي جابر مكانًا مهدمًا لا يليق بالمواطنين. توقف المسرح، وتوقف التذوق الفني. انحسرت الفعاليات وتوقفت الأنشطة، فيما يستمر الإهمال في التسلل إلى كل زاوية من زوايا المكان.
أما قصر ثقافة القباري، فقد تحوّل إلى مجرد مكان غارق في الخراب والضياع بعد انهيار جزء من السقف، ولا أحد يعير هذه الكارثة أي اهتمام حقيقي. بل يستمر السؤال المحير: متى ستتوقف هذه المهزلة؟
هذه القصص ليست إلا نماذج فاقعة لحالة الخراب الثقافي الذي يعصف بالمجتمع المصري. لو كانت هناك أي نية حقيقية لإصلاح هذا الوضع، لكانت هناك خطوات ملموسة في اتجاه تحسين البنية التحتية لهذه المؤسسات.
لكن كل ما نراه الآن هو مزيد من الوعود الفارغة التي لا تنتهي. وبقي السؤال الذي لا يجد جوابًا: هل نستطيع أن نعيد لهذه الأماكن بعضًا من رونقها؟ هل سيبقى للشعب المصري فرصة ليعيشوا ثقافتهم بعيدًا عن العزلة والفقر الفني؟
نسخ الرابط تم نسخ الرابط