الدولة العربية الحديثة
باستثناء مصر والمغرب قريبة النشأة، جذور بعضها تعود إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، وجذور بعضها الآخر ترجع إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. المجموعة الأولى قامت على أنقاض الدولة العثمانية، وقد أشرف الإنجليز على هندستها هندسة كاملة أو أشرفوا على رعايتها رعاية كاملة.
أما المجموعة الأخرى فقد ولدت عقب حصولها على الاستقلال عن الاستعمار الأوروبي، ثم عقب تفكيك الاستعمار الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة.
خذ أمثلة:انتقلت السيادة في العراق من العثمانيين إلى الإنجليز في الحرب العالمية الأولى، جاء الإنجليز بالأمير فيصل بن الحسين، وقالوا للعراقيين هذا ملك عليكم، وبذلك تأسست المملكة العراقية الحديثة أي غير العثمانية 1921، ثم في 1932م قال له الإنجليز أنت ملك مستقل على دولة مستقلة.
مثال ثان: جاء الإنجليز بالأمير عبد الله بن الحسين- شقيق الأمير فيصل- وقالوا لأهالي شرق الأردن، أنتم دولة مستقلة وهذا أميركم قد وليناه عليكم، وقد حمل بعد ذلك لقب ملك الأردن وتغيير اسم إمارة شرق الأردن إلى المملكة الأردنية الهاشمية.
مثال ثالث: الدولة السعودية الثالثة، صحيح أنها تأسست بذراع ودهاء الملك عبد العزيز آل سعود، لكن الصحيح كذلك أن كفالة الإنجليز كانت عنصراً حاسماً في ضمان أمن المملكة، حتى انتقلت المهمة إلى الأمريكان.
مثال رابع: باقي دول الخليج حصلت على استقلالها منحةً من الإنجليز، ثم انتقلت مهمة ضمان أمنها من الإنجليز إلى الأمريكان. خذ أهم الأمثلة وهي مصر: فقد حصلت على استقلالها الفعلي عن العثمانيين بعد أقل من قرن على غزوهم لها
فمنذ مطلع القرن السابع عشر الميلادي أخذت تتقلص سلطة العثمانيين في مجرد رموز سيادية عليا، بينما استقرت السلطة الفعلية في يد فرق المماليك، ثم مع مطلع القرن التاسع عشر زادت حقيقة الاستقلال الفعلي مع بقاء غلالة شكلية مهترئة من السيادة العثمانية على يد محمد علي باشا، ثم انتقص هذا الاستقلال مع الاحتلال الإنجليزي لمصر في الخمس الأخير من القرن التاسع عشر، ثم مع مطلع الحرب العالمية الأولى قطع الإنجليز بقايا الروابط الشكلية التي تربط مصر بالسلطنة العثمانية
ثم بعد ثورة 1919 م قال الإنجليز للمصريين أنتم دولة مستقلة، وقالوا للأمير فؤاد ومن بعده نجله فاروق، كلاكما ملك مستقل على المملكة المصرية المستقلة، ومثلما في كل الحالات السابقة كان للإنجليز يد عليا في كافة الشؤون المصرية حتى ثورة 23 يوليو 1952.
خذ مثالاً أخيراً: كانت الشام أي سوريا ولبنان من دون فلسطين والأردن من نصيب فرنسا، وقد أسست الدولتين وسمحت فيهما بديمقراطية شبيهة بديمقراطية الإنجليز في مصر، ثم منحت البلدين استقلالهما 1946، انتهت الديمقراطية السورية سريعاً مثل ديمقراطية مصر، وتعثرت ديمقراطية لبنان مثل ديمقراطية الأردن، لكن تميزت كل منهما بالاستمرار، وكانت هذه الديمقراطية رغم هشاشتها هي من عصمت البلدين من الزوال.
مصر تظل حالة استثنائية تصلح للتدريس من باب العبرة التاريخية والعظة الفلسفية من زاوية، أنه عندما كانت مصر تحت الاحتلال كان فيها ديمقراطية، ثم لما صارت تحت الاستقلال أصبح فيها استبداد ثم طغيان ثم ديكتاتورية، يختلف شكلها كل فترة، لكنها مع الأيام تتعمق ثم تتجذر.
باستثناء التطور الديمقراطي في المغرب، فإن أي بلد عربي عرف الديمقراطية فقد عرفها من باب التمرين والتدريب تحت الاحتلال أو عقب الاحتلال لفترة محدودة، ومثال ذلك الأشهر السودان الذي حصل على مؤسسات ديمقراطية على المثال البريطاني عند استقلاله 1956، لكنها لم تعمر طويلاً – مثله مثل سوريا – حتى بدأت عهود الانقلابات العسكرية، تتخللها فترات ديمقراطية هشة متعثرة، حتى ختمت بثلاثين عاماً من حكم عسكري- إسلامي مزدوج،
ترك السودان منقسماً ثم غارقاً في حرب أهلية، وفي ذلك لم يختلف الحكم الإسلامي في السودان عن الحكم البعثي في كل من العراق وسوريا، فكلهم سلموا بلدانهم لمآلات التدمير الذاتي.
هذه مجمل السيرة الذاتية للدولة العربية: كيانات خرجت منهكة من قرون من الحكم العثماني، ثم دخلت منهكة تحت الاستعمار الأوروبي، ثم حصلت منهكة على الاستقلال الوطني، ثم عاشت مائة عام أو قريباً من ذلك، لم تنجز قفزة كبيرة إلا في تأكيد ذاتها ومحاولة خلق انتماء وطني لها وبلورة هوية قومية، تميزها عن غيرها مع مقادير متفاوتة من النجاح في بناء المؤسسات والمرافق العامة،
سواء كانت مؤسسات القمع والضبط والربط أو مؤسسات خدمة المواطنين وتمكينهم من الترقي والتحضر والتمدن الأدبي والمادي. هذه الدولة العربية الراهنة لديها أربع مشاكل: مشكلة مع مواطنيها كيف تحكمهم، ثم مشكلة مع شقيقاتها العربية، كيف يكون التعامل فيما بينهم، ثم مشكلة مع جوارها الإقليمي تركيا وإيران وإسرائيل وإثيوبيا، ثم مشكلة مع القوى الكبرى أمريكا وأوروبا والصين وروسيا. هذه المشاكل الأربع تطرح تحديات كبرى التعامل معها، سوف يقرر مستقبل هذه الدولة.
في الربع قرن الأخير، من مطلع الألفية، وبالتحديد من 11 سبتمبر 2001 م، والدولة العربية تحت ضغط لا يتوقف، القوة التي نفذت الحادثة الأخطر في تاريخ أمريكا كانت مجموعة شباب مصريين وسعوديين على صلة بتنظيمات لها ملاذات في أفغانستان وباكستان، تعاونت مصر والسعودية وباكستان مع الأمريكان، ورفضت أفغانستان، بدأت أمريكا مسلسل إسقاط الأنظمة بزعم إقامة ديمقراطيات مكانها، أسقطت النظام في أفغانستان
لكن لم تنجح في إعادة بناء الدولة، ولم تنجح في بناء حكم ديمقراطي، ولم تنجح في تحديث ثقافة المجتمع، ثم انهزمت، ثم تركت الجمل بما حمل وهربت، ثم عادت أفغانستان إلى ما كانت عليه، بعد أن أثبتت أمريكا ضعفها أمام العالم مرتين: مرة عندما لم تمنع حادث 11 سبتمبر 2001، ثم مرة عندما فشلت في أفغانستان، قامت بالغزو والتخريب، ثم فشلت في كل مزاعمها، ثم انكشفت حدود قدرتها التي يجري تضخيمها دون تعقل. تكرر الأمر بعد أقل من عامين في مارس 2003 في العراق
حيث غزو ثم تخريب ثم تجريب، كيف تقيم ديمقراطية ومجتمعاً حديثاً، ثم فشلت ثم خرجت مهزومة هزيمتين: هزيمة مادية كقوة عسكرية، ثم هزيمة حضارية كنموذج، يزعم أنه قادر على زرع نباتات الديمقراطية في مثل أفغانستان والعراق. في الحالتين هدمت أمريكا الدولة القديمة، ثم فشلت في بناء دولة ديمقراطية جديدة مكانها، ثم أورثتها مشاكل هيكلية، سوف تظل البلدان تعاني من آثارهما السلبية عقوداً طوالاً. ثم تكرر الأمر مع ثورات الربيع العربي، حيث شجعت أمريكا والغرب عليها
ثم وعدت بمساعدة الشعوب في بناء ديمقراطيات جديدة، ثم أخلفت وعودها، ووقفت تتفرج على هدم الأنظمة القديمة، دون أن تمد يدها للمساعدة في بناء أنظمة ديمقراطية قادرة على خلق دول حديثة فاعلة، تستجيب لتطلعات مواطنيها وتحسن تمثيلهم في الداخل وفي الخارج. ومثلما حدث في أفغانستان ثم العراق تكرر الأمر في بلدان الربيع العربي
تمزقت أواصر الدولة القديمة، ثم تبددت أحلام الدولة الجديدة وتبخرت وعود الديمقراطية، وحدث العكس حيث الفوضى والعنف وحيث الانقسام والتشرذم ثم الحروب الأهلية، كل ذلك وأمريكا ومعها أوروبا تتفرج على شعوب العرب، يفقدون القيم ويضل منهم الجديد، وينزلق تاريخهم في حقبة مستنقعية مدمرة.
عندما تم غزو العراق وإسقاط حكم البعث بقيادة صدام حسين، كان الهدف المعلن للأمريكان هو أن يجعلوا من عراق ما بعد صدام نموذجاً مثالياً لديمقراطية، يتولون تأسيسها ومجتمع حديث، يزرعون قيمه وإطاراً للتعايش الوطني بمعايير المدنية الحديثة، دون عرقية ولا مذهبية ولا طائفية، كانوا قد أرهقوا الدولة العراقية لأكثر من عقدين من الزمن
هي الفترة من حربهم الأولى على العراق لتحرير الكويت 1991، ثم حربهم الثانية 2003، بزعم أن العراق يملك أسلحة نووية ويهدد أمن جيرانه ومصدر للإرهاب، ولم يكن أي من تلك المزاعم صحيحاً، كانت أكاذيب محضة، هدموا العراق، ثم تركوه وسوف يظل يعاني من أثر غزوهم لعدة عقود مقبلة.
لما سقطت ديكتاتورية البعث السوري في أحد عشر يوماً من 27 نوفمبر حتى 8 ديسمبر 2924، كانت الدولة السورية قد تم ارهاقها وانهاكها، ما يزيد على ثلاثة عشر عاماً، وقبلها أرهقتها ديكتاتورية عاتية، حكمت أكثر من نصف تاريخ سوريا الحديثة التي بدأت مع الانتداب الفرنسي 1921
دولة نموذج لديكتاتوريات القرن العشرين، عاشت بالسيف وقضت نحبها بالسيف، ولم تترك صفر احتياطي ديمقراطي، ولم تترك صفر طبقة سياسية محترفة، ولم تترك صفر مجتمع مدني، فقط تركت مجتمعاً نصفه، قد هاجر ونصفه بقي تحت القهر.
تجاربنا مع أفغانستان والعراق ودول الربيع العربي تقول، إن أمريكا والعالم كله أعجز، ثم أعجز ثم أعجز عن بناء دولة أو بناء ديمقراطية في أي بلد عربي، فلا هي تملك الإمكانية، مهما كانت إمبراطورية ولا ظروف البلدان العربية تخلو من التعقيد وبالذات في شأن الديمقراطية وثقافتها، صحيح أن أمريكا ومعها الغرب نجحت بعد الحرب العالمية الثانية في إعادة بناء الدولة في كل من ألمانيا،
ثم اليابان كما نجحت في تأسيس ديمقراطية، لا تزال مستقرة حتى اليوم، لكن ذلك مرتبط بجدية القيادة الأمريكية في ذلك الوقت، ثم مرتبط بخلو البلدين من تعقيدات مجتمعاتنا العرقية والطائفية والمذهبية، ثم مرتبط بحقيقة أن البلدين من السابقين في مضمار التقدم العلمي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، هما بلدان حديثان حداثة حقيقية من زوايا كثيرة، لذا كانت المهمة سهلة سواء بناء الدولة أو تأسيس الديمقراطية.
………………………………………………………..
في حالة سورية يظل السؤال هو: بناء الدولة بمن؟ ثم تأسيس الديمقراطية لمن؟ وهل ذلك ممكن؟
هذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.