شكلت قضية التغيير واختيار مساراته معضلة كبرى في تاريخ الشعوب والأمم. وعندما نستعرض التجارب التاريخية المختلفة، نجد أن التغيير السلمي برهن على فاعليته وقدرته على تحقيق تحولات جذرية مستدامة، متفوقاً بذلك على نهج التغيير المسلح.
فإذا نظرنا إلى تجربة جنوب أفريقيا في التسعينيات، نجد كيف تمكن نيلسون مانديلا من قيادة عملية انتقال سلمي من نظام الفصل العنصري إلى الديمقراطية. ورغم مرارة العقود السابقة، اختار مانديلا نهج المصالحة وبناء الجسور بين مكونات المجتمع، مما جنب البلاد حرباً أهلية كانت ستدمر نسيجها الاجتماعي وبنيتها الاقتصادية.
وفي أوروبا الشرقية قدمت الثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا عام 1989 نموذجاً مبهراً للتغيير السلمي. فقد نجح الشعب في إسقاط النظام الشيوعي دون إراقة دماء، من خلال المظاهرات السلمية والعصيان المدني. وامتد هذا النموذج ليشمل دولاً أخرى في المنطقة، مؤدياً إلى انهيار سلمي للمنظومة الشيوعية.
في المقابل عندما ننظر إلى تجارب التغيير المسلح، نجد أن التكلفة البشرية والمادية كانت باهظة. فالحرب الأهلية في سوريا التي اندلعت عام 2011 أدت إلى مئات الآلاف من الضحايا، وملايين اللاجئين، وتدمير شبه كامل للبنية التحتية. وبعد أكثر من عقد لا تزال البلاد تعاني من تبعات هذا الصراع المدمر.
كذلك في ليبيا أدى التحول نحو العنف المسلح إلى انهيار مؤسسات الدولة وتفكك النسيج الاجتماعي. وبدلاً من التحول الديمقراطي المنشود وجدت البلاد نفسها في دوامة من الصراعات والتدخلات الخارجية.
إن التغيير السلمي، رغم أنه قد يستغرق وقتاً أطول، يتميز بقدرته على بناء أسس متينة للمستقبل. فهو يحافظ على مؤسسات الدولة، ويسمح بتطور تدريجي للثقافة الديمقراطية، ويتيح مشاركة جميع فئات المجتمع في عملية التحول.
التجربة الإندونيسية في أواخر التسعينيات تقدم مثالاً آخر على نجاح التغيير السلمي. فقد نجح الشعب في إنهاء حكم سوهارتو الذي استمر 32 عاماً من خلال احتجاجات سلمية. ورغم التحديات الاقتصادية والسياسية، تمكنت إندونيسيا من الحفاظ على وحدتها وتحولت تدريجياً نحو الديمقراطية.
إن الدرس المستفاد من هذه التجارب واضح: التغيير السلمي، رغم تحدياته وبطء إيقاعه أحياناً، يبقى الطريق الأكثر أماناً والأكثر ضماناً لتحقيق تحولات مجتمعية مستدامة. فهو يحمي النسيج الاجتماعي، ويحافظ على موارد البلاد، ويتيح بناء توافقات وطنية حقيقية.
والأهم من ذلك أن التغيير السلمي يكسر حلقة العنف المفرغة التي غالباً ما تنتج عن الصراعات المسلحة.
فبدلاً من توريث الأجيال القادمة تركة من الثأر والانتقام، يؤسس لمستقبل يقوم على التعايش والحوار وقبول الآخر.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط