نشر موقع “لوفيغارو” الإخباري مقالًا للكاتب الصحفي الفرنسي البارز رينو جيرار تحت عنوان “سقوط دمشق: أردوغان هو الفائز الأكبر” في يوم الثلاثاء 10 ديسمبر 2024، والذي تناول فيه تحوّلًا تاريخيًا في سوريا بعد سيطرة جماعة “هيئة تحرير الشام” (HTS) على العاصمة دمشق في 8 ديسمبر 2024. جاء هذا التحول بعد زحف طويل بدأ من إدلب في الشمال السوري واستمر لأثني عشر يومًا مرورًا بحلب وحماة وحمص.
هذا الحدث يوازي في أهميته سقوط جدار برلين في أوروبا عام 1989، إذ يفتح فصلًا جديدًا في تاريخ المنطقة، حيث تضع هذه السيطرة الحركات الإسلامية السياسية في مواجهة بين قوى إقليمية ودولية متعددة المصالح.
أردوغان: الفائز الأكبر
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يعتبر الفائز الأكبر في هذا الصراع، بعد أن نجح في تحقيق نصر استراتيجي مفاجئ من خلال وكلائه. لم يتوقف الأمر عند طرد النفوذ الإيراني من سوريا، بل أصبح الآن في موقع يسمح له بالتحرك بحرية أكبر ضد الأكراد الذين يشكلون تهديدًا سياسيًا طويل الأمد لتركيا بسبب تطلعاتهم للحرية والاستقلال.
تتزامن هذه التطورات مع فشل طويل الأمد للمحاولات التركية لتحسين العلاقات مع النظام السوري. ففي صيف 2023، حاول أردوغان تقديم عرض دبلوماسي لبشار الأسد يتضمن اتفاقًا سياسيًا واقتصاديًا ينهي عزلة سوريا الإقليمية. في المقابل، كان هذا الاتفاق سيسهم في إعادة اللاجئين السوريين تدريجيًا إلى وطنهم. لكن الأسد رفض العرض، مشككًا في ولاء هؤلاء اللاجئين لنظامه، وهو ما اعتبره كثيرون خطأ استراتيجيًا فادحًا.
التخلي عن الأسد: خسارة كبيرة
التخلي عن بشار الأسد من قبل حلفائه الرئيسيين، موسكو وطهران، كان له تأثيرات كبيرة على مجريات الحرب في سوريا. فبينما كانت إيران قد قدمت دعمًا عسكريًا مباشرًا للنظام السوري، إلا أن الضغوط العسكرية من حزب الله والضربات الجوية الإسرائيلية جعلتها غير قادرة على الاستمرار في دعم الأسد. وفي الوقت نفسه، حينما عرضت إسرائيل، عبر مبادرة سرية، تقديم دعم لإعادة إعمار سوريا مقابل التخلي عن التحالف مع إيران، رفض الأسد أيضًا. هذه القرارات كانت بمثابة خطأ استراتيجي آخر ساهم في انهيار المحور الإيراني الذي كان يمتد من طهران إلى البحر الأبيض المتوسط.
فرصة أردوغان: الطموحات العثمانية
أردوغان، الذي واجه إخفاقات متعددة في مصر وليبيا وتونس بعد ثورات 2011، يبدو أنه قد وجد فرصة جديدة لتحقيق طموحاته العثمانية في سوريا. وهذا يأتي بعد نجاح أذربيجان في فرض قوتها ضد الأرمن عام 2020، وهو ما يراه أردوغان دافعًا لتوسيع النفوذ التركي في المنطقة. بفضل هذه التحولات، يحقق أردوغان هدفه في جعل سوريا جزءًا من رؤيته الإقليمية، التي تشهد على تصاعد التأثير التركي على الدول المجاورة.
الواقع الكردي والإدارة الأمريكية
في المقابل، وفي منطقة روجافا التي يسيطر عليها الأكراد، يواصل المقاتلون الأكراد الاعتماد على دعم أمريكي محدود. ورغم الضربات الجوية المشتركة بين أمريكا وإسرائيل ضد بقايا تنظيم داعش، إلا أن التزام واشنطن تجاه المنطقة أصبح موضع شك. عدم الاستقرار في المنطقة يفتح المجال أمام أردوغان للتحرك ضد الأكراد في سوريا، ما يضع واشنطن في موقف حرج، إذ قد تجد نفسها مضطرة إلى التكيف مع التطورات الجديدة لصالح حليفها التركي.
الجولاني: تحول مشكوك فيه
من ناحية أخرى، ظهر أبو محمد الجولاني، قائد “هيئة تحرير الشام”، بوجه جديد في الساحة السورية بعد انتصاره في دمشق. الجولاني الذي كان في السابق أحد قادة تنظيم القاعدة والمرتبط بتنظيم داعش، بدأ يدّعي اعتناق أفكار وطنية واحترام حقوق الأقليات. لكن هذا التحول المفاجئ يثير الكثير من التساؤلات، إذ يصعب تصديق التغيير الجذري في فكر الجولاني بناءً على تاريخه في الإرهاب الإسلامي المتشدد.
الحظ وراء النجاح التركي
وفي وسط هذه التحولات السياسية والعسكرية، يعتقد كثيرون أن الحظ كان عنصرًا رئيسيًا في نجاح أردوغان في تحقيق أهدافه. كما قال نابليون بونابرت: “الحظ أهم من الكفاءة”، وهو ما يبدو أن أردوغان يعيه جيدًا. ففي ظل التصدع الكبير الذي أصاب المحور الإيراني وتزايد الضغوط الدولية على النظام السوري، كانت تركيا في المكان المناسب لتحقيق أكبر استفادة من الوضع الحالي.
يبدو أن الأيام المقبلة ستشهد تحولًا كبيرًا في خريطة القوى الإقليمية في الشرق الأوسط بعد سيطرة “هيئة تحرير الشام” على دمشق. الأوضاع الجديدة توفر فرصة لأردوغان لإعادة صياغة سياسات تركيا الإقليمية بما يتناسب مع الطموحات العثمانية الحديثة. وفي الوقت نفسه، يشهد المجتمع الدولي تحولًا في مواقف القوى الكبرى تجاه النزاع السوري، حيث أصبح من الواضح أن إيران وروسيا لم تعدا في وضع يسمح لهما بمساندة الأسد بشكل كامل. ومع تغير هذه الديناميكيات، يظل السؤال الأهم: ما هو الإسلام الذي سيسود في سوريا المستقبل؟
نسخ الرابط تم نسخ الرابط