أخبار عاجلة

أنور الهوارى يكتب : استنزاف تركيا

غير مسموح بقوة إقليمية عربية أو إسلامية لها قرار مستقل في شؤون الشرق الأوسط ، هذه هي- باختصار شديد- القاعدة الكبرى التي يتوافق عليها الغرب منذ تأسس الشرق الأوسط المعاصر من جوف اللهيب والنار في الحرب العالمية الأولى، شرق أوسط يفسح مكاناً في قلبه لدولة إسرائيل، ودولة إسرائيل جاءت لتبقى إلى الأبد، وبقاء دولة إسرائيل شرطه عدم وجود قوة إقليمية لها شأن يمكن أن تمثل خطراً على بقاء إسرائيل، هذا الشرق الأوسط الذي رسمت ملامحه القوى الغربية إنما هو كيان اصطناعي جرى تصميمه بما يستوعب دولة من خارج ثقافته وحضارته، ثم يتقبل بقاء هذه الدولة، ثم يتقبل راضياً أو كارهاً تفوق وسيطرة هذه الدولة، وعلى هذا الأساس جرى استنزاف مصر الناصرية التي خرجت على الطاعة واستعصت على الترويض وجيء من داخلها بمصر الساداتية التي تقبلت ما كانت ترفضه مصر الناصرية كما كانت ترفضه من قبلها مصر الوطنية في ثلاثين عاماً بين ثورتي 1919 و 1952 . كذلك جرى استنزاف عراق البعث بعدما ظن أنه ورث دور مصر الناصرية عقب اتفاق كامب ديفيد 1979م. كذلك جرى استنزاف إيران الثورية التي كان قائدها الإمام الخميني يستلهم دروس مدرسة عبد الناصر الثورية، والدور القادم على استنزاف تركيا فلا تبقى في الشرق الأوسط قوة لها معنى غير إسرائيل.

مصر ومن بعدها العراق ومن بعدها إيران ومن بعدها تركيا، كل منها صعدت في مرحلة بعينها وتحت قيادة بعينها لدور إقليمي أشبه بنفوذ امبراطوري مؤثر خارج حدودها تأثيراً يبلغ حد الهيمنة. مصر الناصرية في الخمسينيات والستينيات كانت لها يد قوية في كافة الأحداث المهمة في الإقليم وبالذات في المشرق العربي وغرب آسيا، وقفت وراء الثورة على النظام الملكي في العراق 1958، ثم لما اختلف قائد الثورة عبد الكريم قاسم مع عبد الناصر قامت ثورة جديدة في قبراير  1963 وكان وراءها عبد الناصر، و بعده بشهر واحد في مارس 1963 كانت ثورة البعث في سوريا وكان وراءها عبد الناصر، وفي العام ذاته كان عبد الناصر يقف وراء ثورة الشعب الإيراني ضد الشاه 1963م، كان عبد الناصر قوة ضغط عنيفة على النفوذ الغربي وشركاء الغرب في الإقليم وبالذات إيران والعراق وتركيا، لما غضت بريطانيا وأمريكا البصر عن الانقلاب العسكري الذي جاء بعبد الناصر إلى حكم مصر كان عشم الدولتين هو أن يتفرغ الضباط لبناء مصر من الداخل ويعقدون سلاماً مع إسرائيل ويتعهدون بمكافحة الشيوعية والنفوذ السوفيتي ثم ينضوون تحت مظلة الأحلاف الغربية التي تزعم حماية الشرق الأوسط، لكن الضباط لم يجرؤوا على شيء من ذلك لأن ميراث الوطنية المصرية في العهد السابق عليهم يصدهم ويمنعهم من ذلك.

وما كان مطلوباً من الحكام الجدد في مصر- قبل سبعين عاماً أو أكثر- كان وما زال هو المطلوب من كل حكام الشرق الأوسط: اعتراف باسرائيل، تقبل تفوق اسرائيل، الانضواء تحت الحلف الغربي، الاستعداد لتقبل قيادة اسرائيل، وهذا يعني عدم السماح لأي قوة أن تكون في وضع توازن أو تكافؤ أو تنافس أو ندية مع إسرائيل. تم استنزاف عبد الناصر في أقل من عشرين عاماً 1952- 1970 ثم أدار خليفته انقلاباً جذرياً على تراثه من داخل قلاع الدولة المصرية ذاتها. ثم جرى استنزاف العراق في أكثر قليلاً من عشرين عاماً 1980- 2003م. ثم جرى استنزاف إيران في قريب من خمسين عاماً 1980- 2024 م، ومن 2025م سوف يبدأ استنزاف تركيا في سوريا حيث الكمين الذي ينتظرها.

تركيا الحالية ليست هي الدولة العثمانية، تركيا الحالية هي دولة وطنية قومية حديثة المنشأ، عمرها من عمر غيرها من كافة دول الإقليم التي نشأت بعد انهيار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، تركيا الحديثة عمرها مائة عام أو أكثر قليلا جداً، والفضل في تأسيسها لا يعود إلى عثمان الأول بن أرطغرل 1299م، لكن يعود إلى كمال أتاتورك 1923، عمرها أقل قليلاً من عمر الأردن، ومثلها مثل الأردن فإن بقاءها يعود الفضل فيه للغرب والتحالف مع الغرب. الإمبراطورية العثمانية ذهبت وذهبت أيامها ولن تعود وأي أحلام إمبراطورية لدى تركيا أردوغان ليست إلا أحلام يقظة، الإسراف فيها يفصم الشخصية ويصيبها بأمراض الانفصال عن الواقع.

الغرب، أوروبا وأمريكا، لم تترك سوريا للنفوذ التركي حباً في تركيا لكن لاستنزاف فائض طموحات أردوغان، وهي مثل فائض طموحات عبد الناصر، ومثل فائض طموحات صدام، وفائض طموحات فقهاء إيران، كلها طموحات مدفوعة بإيحاءات من ماض إمبراطوري في سالف الدهر لكن واقع الحال لا يسعفها، مصر من الداخل كان يتم اعتصارها وتجفيف ريقها بل وتجويعها لتوفير الإمدادات لطموحات عبد الناصر الإقليمية، وتكرر الأمر في العراق، ثم يتكرر الآن في إيران، ولولا أن تركيا فيها مقادير معقولة من الديمقراطية لربما كان يجوز القول أن هذا هو ما ينتظر تركيا، لكن تظل الحقيقة هي أن الاقتصاد التركي أوهى وأضعف من أن يتحمل فواتير دور اقليمي شبه إمبراطوري يندفع نحوه أردوغان .

السؤال: لماذا يرحب الغرب بدور أشبه ما يكون بدور استعماري محض لتركيا في سوريا؟ 

الجواب: ليس أفضل من تركيا أداة يستخدمها الغرب في إعادة تشكيل الشرق الأوسط، ليس أفضل من تركيا أداة لإخراج إيران من سوريا ولبنان والعراق، ليس أفضل من تركيا أداة لمحاصرة الوحود الروسي في شرق المتوسط، ليس أفضل من تركيا أداة للتعامل مع فسيفساء التكوين الديني والعرقي والمذهبي والطائفي في سوريا، ليس أفضل من تركيا أردوغان أداة لتحقيق كل مصالح الغرب بيد إسلامية تكسب تأييد قطاعات واسعة من العرب ومن المسلمين السنة بما يتقي الشبهات عن مقاصد الغرب في إعادة صوغ المنطقة بما يمنع تكرار الحرب الاستثنائية التي تعرضت لها إسرائيل في خريف 2023 واستمرت طوال 2024 وامتدت إلى 2025، حرب أطلقتها المقاومة الفلسطينية في غزة، وهندستها إيران، وجيشت فيها الشيعة العرب في لبنان والعراق واليمن، مظاهرة قتالية عربية بهندسة إيرانية غير مسبوقة في تاريخ إسرائيل، المطلوب شرق أوسط بلا مقاومة، بلا نفوذ إمبراطوري لإيران، لا حضور لروسيا، في مقابل وعد بالديمقراطية وبناء البلدان من الداخل.

 مفارقة تاريخية مهمة: عندما خرج العثمانيون من الشرق الأوسط ومن التاريخ كله في الحرب العالمية الأولى فرضت القوى الغربية على بلادنا أشكالاً مختلفة من الاستعمار تحت مسميات مثل الانتداب والحماية، حماية على مصر والسودان، انتداب في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق، الانتداب في سوريا ولبنان استغرق ربع قرن، في فلسطين كذلك مع تقسيمها ثم تسليمها لليهود، في العراق أكثر قليلا من عقد من الزمن، الحماية في مصر دامت أربعين عاماً والوجود الفعلي دام ثلاثة أرباع قرن، كانت الفكرة من الانتداب والحماية هي صنع دولة حديثة على النموذج الفرنسي أو البريطاني، وتحديث الشعوب وتأهيل الدول للاستقلال بعد ضمان وجود نخب حكم طيعة موالية ومتعاونة مع الغرب ولها معه مصالح وجودية، وعلى هذا الأساس تم ابتداع واصطناع الأردن من جذورها ولم يكن لها أساس من قبل فهي طارئة على التاريخ تماماً مثلها مثل العراق الحديث وسوريا الحديثة ولبنان الحديث وتركيا الحديثة، مصر كان لها مسار مختلف، صنع محمد علي باشا حداثتها وصنع المصريون استقلالها، تركيا الحديثة كان الجزء الأكبر من معركتها في الانسلاخ من تاريخها العثماني ومن جلدها الشرقي ومن تراثها الإسلامي ومن طابعها الإمبراطوري والانتقال من عداء أوروبا إلى أن تكون قبلتها أوروبية ووجهتها علمانية.

الآن، بعد أكثر من مائة عام على الحرب العالمية الأولى، واتفاق سايكس بيكو، و زوال الإمبراطورية العثمانية، ووعد بلفور، وتأسيس إسرائيل، يتوافق الغرب على استدعاء تركيا وتكليف تركيا بدور كبير في الشرق الأوسط من منابع الفرات في الشمال حتى منابع النيل في الجنوب ومن الخليج في الشرق حتى ليبيا في الغرب. 

الدور التركي في سوريا ما بعد الأسد هو تكليف استعماري مزيج من نظامي الانتداب والحماية كما كانت فرنسا وبريطانيا تفعلان، لكن السؤال: هل تتمكن تركيا من القيام بهذا الواجب؟ وللجواب يلزم الوقوف عند عدد من حقائق السياسة الشرق أوسطية المعاصرة.

1 – مهمات الانتداب التركي في سوريا هي المهمات ذاتها التي انتدبت أمريكا نفسها لها في المنطقة منذ مطلع الألفية، ومن أجلها تولت إسقاط بعض الأنظمة بالغزو المسلح كما في أفغانستان طالبان وعراق صدام، كما شجعت على إسقاط عدد آخر من الأنظمة في ثورات الربيع العربي، وكانت الفكرة الأخلاقية وراء ذلك هي إسقاط الديكتاتوريات وتمكين الشعوب من بناء ديمقراطيات، نجح الجزء الأول من المهمة وهو اسقاط الديكتاتوريات بينما أخفق الجزء الثاني وهو بناء الديمقراطيات، وانفتحت البلدان على موجات من الفوضى والحرب الأهلية وعودة ديكتاتوريات جديدة أشد وطأة من الديكتانوريات القديمة، حدث ذلك في ربع القرن الأول من الألفية الحالية وكلف الأمريكان وحلفاءهم الكثير من المغارم دون حد أدنى من المغانم ، ومن ثم بات التنازل عن هذا الدور في سوريا لتركيا أردوغان أمراً مفهوماً من وجهة نظر السياسة الغربية، وقبلت تركيا القيام بالمهة عن طيب خاطر، وتصدرت المشهد السوري كصاحب وصاية دولية شرعية معترف بها من المجتمع الدولي.

2 – من حيث الظاهر تبدو الحرب الخاطفة التي هندستها تركيا في أحد عشر يوماٍ من السابع والعشرين من نوفمبر حتى الثامن من ديسمبر 2024 وأسقطت النظام البعثي ونصبت حكاماً جدداً على سوريا جاءوا على أسنة الرماح التركية، يبدو ذلك في الظاهر كما لو كان الفتح العثماني الجديد لسوريا، إذ تتشابه الوقائع بين الفتح الأول 1916 والفتح الجديد 2024 حيث تسقط حلب في معركة سهلة، ينتصر فيها الطرف العثماني القديم ثم الأردوغاني المعاصر بفضل خيانات في الجيش المدافع عن حلب ثم بفضل الأهالي وأصحاب العصبيات الذين غيروا ولاءهم بسرعة من النظام الساقط الى النظام القادم، ومن ثم أصبح الطريق إلى دمشق مجرد نزهة سياحية، قد يبدو الأمر في الظاهر كذلك، لكنه في جوهره إعادة توجيه بوصلة سياسة الفوضى الخلاقة، فبدلاً أن تتوجه تداعياتها إلى أمريكا والغرب يتم توجيهها إلى الداخل، إلى أهل الإقليم بعضهم في بعض، عرب وكرد وفرس وتركمان وأرمن ودروز وعلويين وسنة وشيعة وكاثوليك وأرثوذكس يطحن بعضهم في بعض، فوضى خلاقة تدار من الداخل ومحصورة داخل حدود الإقليم في حالة جهنمية من شك الجميع في الجميع وتربص الجميع بالجميع واستنزاف الجميع للجميع، وتركيا سوف تكون الخاسر الأكبر في هذا الاستنزاف الذاتي في الأقليم.

3 – الانتداب التركي على سوريا يضع تركيا في قلب نار سوف تحرق ليس فقط أصابعها لكن سوف تحرق هالة أردوغان تماماً، سوريا حكمها صعب، من أصعب ما يكون، سوريا لم تتوحد في أغلب تاريخها كانت مجزأة، أقرب ما تكون إلى مدن، والمدن أقرب ما تكون إلى دول، هكذا كانت مقسمة تحت حكم بيزنطة، ثم تحت الحكم العربي الذي اعتمد التقسيم البيزنطي ثم تحت حكم المماليك والعثمانيين، وجزء من صعوبة حكم سوريا، وكذلك صعوبة حكم العراق، هو الميراث السياسي العثماني الذي كان يقوم في العراق على تقسيمها إلى ثلاث ولايات أو باشويات مستقلة متنافسة متخاصمة وهي البصرة وبغداد والموصل، وكذلك كان شأن الحكم العثماني لأربعمائة عام في الشام كله حيث عدد من الولايات يزيد أو ينقص وبينها منافسات ومخاصمات تدبرها العاصمة في اسطنبول، وزاد العثمانيون على ذلك اللعب- بلا رحمة- بأوراق العصبيات والقبائليات والمذهبيات والطائفيات، تلعب بهذا ضد ذاك، وتحرض هذا على ذاك، أربعمائة عام من الحكم العثماني تركت كلا من العراق والشام يستعصيان على فكرة دولة المواطنة الموحدة دون نتوءات المناطق ونزعات المذاهب وحزازات الطوائف وخصومات العصبيات، أربعمائة عام واجه فيها العثمانيون قلاقل لم يهنأ ولم يهدأ بسببها حكمهم للعراق والشام، فإذا كان العثمانيون وهم إمبراطورية كانت هي الأقوى في العالم في زمانها، قد عجزوا عن حكم العراق وسوريا فهل ينجح أردوغان في مثل هذه المهمة وسوريا فيها مناطق تحت الاحتلال الأمريكي والروسي والإيراني وشعبها نصفة لاجئء خارج البلاد والبنية التحتية دمرتها حرب أهلية قريباً من ثلاثة عشر عاماً؟!.

4 – صحيح أن روسيا وإيران في وضع هزيمة، وصحيح أن ذلك تم بفضل حرب أوكرانيا ثم حرب طوفان الأقصى، وكل ذلك حسمه السلاح الأمريكي ثم الغربي، وليس من المنطق إهداء ثمرات ذلك المجهود والتضحيات الغربية إلى تركيا، إلا أن يكون انتداب تركيا في سوريا استنزافاً مقصوداً لها في حرب خاسرة، فروسيا منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر وهي طامحة في دفء مياه المتوسط ، وروسيا الحديثة قامت على تعريف تركيا بأنها مجرد عازل يعزل روسيا عن المياه الدافئة وكانت مطامح روسيا معلنة في أن لها الحق في احتلال اسطنبول والبوسفور والدردنيل، ولولا القوى الأوروبية لكان لها ذلك،  وفي الشام و مصر كان على بك الكبير وضاهر العمر ومحمد بك أبو الذهب وإبراهيم بك ومراد بك على استعداد لتقديم موان على سواحل مصر والشام تكون تحت تصرف روسيا القيصرية في مقابل مساعدة روسيا لهم ضد السلطنة العثمانية، وامتد هذا التراث من المرارة تجاه العثمانيين والاستعداد للتعاون مع الروس ضدهم إلى عهود الاستقلال بالذات في العراق وسوريا ومصر، لو أرادت تركيا أردوغان استعادة التاريخ فسوف تكتشف حقيقة أن التاريخ في أغلبه ضدها وليس معها، فقبل صراع العرب مع أوروبا كان صراعهم مع السلطنة العثمانية.

لو كانت أمريكا نجحت في أفغانستان والعراق فإن تركيا سوف تنجح في سوريا.

نسخ الرابط تم نسخ الرابط

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق ما هي الدول التي استقبلت كبار ضباط النظام السوري؟ بعد الثورة السورية
التالى عمرو هاشم ربيع : إلى متى تثقل السلطة في مصر كاهل المواطنين بالجبايات