مع اشتداد المشكلة الاقتصادية في مصر، تتضاعف وتتزايد الأزمات الاجتماعية، لما لتلك المشكلة من أثر كبير على زيادة معدلات الفقر، الذي وصل حسب تقدير البعض إلى 37% عام 2024. وكان البنك الدولي قد أشار إلى أن هذا المعدل عام 2022 هو 32,5%.
من المؤكد أن انخفاض قيمة العملة المصرية، هو مظهر ونتيجة لهذه المشكلة. ورغم أن جميع المصريين هم من المكلومين نتيجة هذا الأمر، إلا أن وطأة هذا الأمر على الطبقتين الدنيا والوسطى كبير. لذلك لم يكن من الملائم ولا من الملائمة أن تزداد تلك الأثار السلبية بزيادة الجبايات التي تفرض على المواطنين، والتي تتأثر بها هاتين الطبقتين على وجه الخصوص.
خذ على سبيل المثال حجوزات الإسكان الاجتماعي لمحدودي الدخل، والذي أعلنت الحكومة عنه منذ أسابيع قليلة، وأغلق باب الحجز فيه نهاية ديسمبر 2024. هذا المشروع شارك فية مئات الآلاف من الناس، فقام كل راغب في الحجز بدفع 30415 جنيه، وستجرى القرعة التي تلزم من تصيبه بسداد مبلغ يناهز المليون جنيه للشقة الواحدة، تدفع على عدة سنوات، بعد بضعة أسابيع من القرعة. أما من لم يتم اختياره، فسترد له الأموال بعد أسابيع أخرى، وسيكون ذلك بعد خصم مصاريف إدارية لم تحدد بعد. بطبيعة الحال كان من الممكن أن يتم سداد المبلغ المذكور بعد أن تجرى القرعة، وأن يحل الجاد محل المتأخر في السداد، لكن الرغبة في تجميع المال واستثماره لصالح غير أصحابه، هو أساس ما حدث، خاصة مع ارتفاع ثمن كراسة الشروط لكل متقدم، والذي هو 300 جنيه للكراسة وصلت إلى ضعف هذا الثمن بسبب عدم توافرها في مكاتب البريد.
خذ أيضا كارتات الطرق، والتي تؤول أموالها للجهة التي قامت بسفلته الطريق. كارتات الطرق تؤثر بشكل كبير على أسعار السلع والخدمات، لكون سيارات نقل الركاب والبضائع تمر عبرها. وتهيمن وزارة النقل ووزارة الداخلية على تلك الكارتات، لكن جهاز مشروعات الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة له اليد الطولي على تلك الطرق. ورغم أن تنمية حرم الطرق يمكن أن يعطى عائد أكبر بكثير من عوائد الجباية عبر تلك الكارتات، إلا أن السلطة دأبت على تأسيس تلك الكارتات بشكل مبالغ فيه. وعامة، ورغم أنه يفترض ألا تقام تلك الكارتات إلا على الطرق السريعة والأكثر طولا، إلا أن بعض الكارتات قائمة بين المراكز في المحافظة الواحدة، ما يجعل استنزاف أموال الناس في تزايد مستمر. منذ شهر تقريبا زادت تلك الكارتات، ما أرهق كاهل المارة، خاصة للذين يستخدمون الطرق بشكل مستمر. ما يثير العجب في تلك الكارتات أن مرور الشاحنات لا يخضع لنظام شفاف، فمرور سيارات نقل الحديد أو الأسمنت أو الأوناش يختلف باختلاف الشخص القائم على محطة الكارتة. كما أن مرور الضباط حتى المتقاعدين منهم، بسياراتهم الخاصة، يتم مجانا في تفرقة واضحة مخالفة للدستور بين المواطنين.
خذ أيضا، فرض ضريبة على جلب الهواتف النقالة من الخارج اعتبارا من الأول من يناير 2025، ما يرهق الكثيرين من محدودي الدخل، والذين يلجأون لتك الوسيلة كي لا يتحملوا الكثير من النفقات عند الشراء من السوق المحلي، الذي يبدو أن رجل الأعمال الصاعد صافي وهبة ضمن من يسيطر على سوقه المحلي، ما يجعل من فرض الضريبة التي ستحد من الاستيراد للغرض الشخصي تصب في مصلحته هو وغيره من رجال الأعمال.
خذ كذلك الارتفاع المتواصل لتذاكر مترو الأنفاق، وهو الوسيلة التي لا غنى عنها للطبقتين الفقيرة والمتوسطة. هذا الارتفاع يهلك جيوب المصريين، خاصة مع ارتفاع تكلفة وسائل النقل والمواصلات الأخرى، بسبب الارتفاع المتوالي والجنوني لأسعار البنزين والسولار، والتي هي أيضا تتزايد بوسائل مضطردة فتؤثر على أثمان السلع والخدمات كافة.
كل ما سبق وأمور أخرى، يجعل السلطة تعتبر الضرائب الوعاء الرئيس الذي لا غنى عنه للإيرادات العامة في الموازنة العامة للدولة. وهذا الوعاء مع عدم العدالة الضريبية يكون هو المظهر الطبيعي لمعاناة الناس. فالسياسة الضريبية الكفوءة هي التي تتمكن من زيادة الإيرادات بما يتواكب مع النمو في الدخل، من دون تغييرات متواترة في معدلات الضرائب أو إدخال ضرائب جديدة تنعكس سلبا على الاستثمار.
والناظر إلى الوعاء الضريبي في مصر يدرك للوهلة الأولى، أنه لا يزال هناك العديد من الأنشطة والقطاعات التي لا تخضع للنظام الضريبي، تنتمي لذوى أصحاب الدخول العليا وأصحاب الثروات، وهو ما يحدث في إذعان الحكومة والبرلمان دوما لرغبات الطبقة العليا بعدم فرض ضرائب على الأرباح التجارية والأوراق المالية وأنشطة البورصة.
هنا يجب أن نشير إلى تغير التركيب الهيكلي للضرائب المصرية، حيث انخفض نصيب الضرائب على الأرباح والمكاسب الرأسمالية من 42,4% عام 15/2016 إلى 36,7 عام 23/2024، في المقابل أرتفعت الضرائب على السلع والخدمات من 40,2% إلى 46,3% خلال ذات الفترة، وكل ذلك يرجع بالأساس إلى زيادة الضرائب العامة والضرائب على القيمة المضافة.(أنظر: التقرير الاستراتيجي العربي الصادر عن مركز الدراسات السياسية بالأهرام لعام 2023).
لا شك أن واحد من أكبر الأمور التي تجعل السلطة في مصر تلجأ إلى المزيد من الجبايات هو قلة الإنتاج الذي هو العصب الرئيس الذي يعتمد عليه استقرار العملة المحلية، فبدونه لا تجد السلطة للتعويض عن الخسائر في قيمة الجنيه إلا من جيوب الطبقتين الفقيرة والمتوسطة لمواجهة نواكب قلة الإنتاج، خاصة مع الخضوع -كما سبق ذكره- لرغبات أصحاب الثروات، بالامتناع عن فرض الضرائب التصاعدية. جدير بالذكر أن تركيا وكوريا الجنوبية تصدران في العام الواحد ما قيمته 200 و300 مليار دولار مقابل عدم تجاوز مصر عتبة صادرات الـ50 مليار دولار.
ولعل واحد من أكثر الأمور التي يمكن من خلالها تفسير زيادة النفقات، هو كثرة الإنفاق الشرهي، خاصة مع فقد بوصلة الأولويات. هنا من المهم الإشارة إلى بناء العاصمة الإدارية الجديدة وما تكلفته من مليارات الجنيهات، وكذلك العلمين الجديدة، وأيضا التوسع في شبكة الطرق والنقل والمنوريلالمبالغ فيها، والتي وصلت حتى مطلع العام 2023 وفق تصريح الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى 2 ترليون جنيه، وهو ما عادل أكثر من ثلث الدين الخارجي وقتئذ.
لقد كان حريا بصانع القرار أن يقوم ببناء الهياكل الرئيسة لدعم السياسات الاجتماعية، وخاصة المدارس والمستشفيات، عوضا عن الأبراج الأيقونية والقصور الرئاسية والتباهي ببناء أكبر السواري وأكبر المساجد وأكبر الكنائس، وكل هذه الهياكل رغم أن بعضها لا يدر إنتاج مباشر إلا أنهاتهدف إلى الإرتقاء بالشرائح الاجتماعية، التى زادت فقرا على فقرها بسبب جباية الضرائب.
لا شك أن مشروعات الإرتقاء بالطبقة الدنيا في تواصل مستمر، كحياة كريمة وغيرها، لكن كان الأمر سيختلف لو تم إعمال فقه الأولويات، خاصة مع انخفاض بعض المصادر الريعية المعتادة للدخل كعائد قناة السويس بسبب الحرب على غزة، الذي انخفض عن العام المنصرم بمقدار 6 مليار دولار. من هنا يكون حتمية العمل على زيادة التشغيل، وزيادة فرص العمل، وترك القطاع الخاص للعمل بحرية بعد أن سلبت بعض مؤسسات الدولة الرسمية عديد المجالات التي كان يعمل بها، وهو ما كان محل انتقاد صندوق النقد الدولي، وذلك كله عوضا عن الركون على مصادر العملة الأجنبية التقليدية وعلى رأسها تحويلات المصريين بالخارج والصادرات النفطية. من هنا فقط يمكن أن يشعر المواطن بكرامته، ولا تنحدر نسبة الفقر بين الناس.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط