كثيرة هي الشعارات الديمقراطيّة التي رفع لواءها رؤساء، وقادة، وزعماء، وسياسيون، وأحزاب، وناشطون، وفاعليات، وشخصيات عربية على ساحة العالم العربي منذ أوائل القرن العشرين وحتى اليوم.
لم يعُد أمام أيّ زعيم يتبوّأ الحكم في بلد عربيّ ما، إلّا وتحدّث بإسهاب عن الحرية والديمقراطية، ليجعلها مبخرة حكمه، مبدياً كلّ الحرص على تطبيقها بشفافية كاملة!
عندما يبدأ الحاكم بمباشرة ولايته، تراه يلجأ إلى طمس «إنجازات» سلفه، والنيل منه، ومحو صورته، كي يطلّ في ما بعد على الجماهير بشخصية القائد الجديد المنقذ الذي جاء في موعده مع القدر…
من سوء طالع الشعوب العربية، أنّ الحياة السياسية حملت نموذجاً واحداً في الحكم، وإنْ تعدّدت أشكال الأنظمة، وهو الديكتاتوريّة في الديمقراطية الوهمية.
إذ أنّ كلّ مَن يتقلّد زمام الحكم في الدولة، باستثناء قلة لا تتجاوز أصابع اليد، تتفتح رغبته وشهيّته المسبقة في البقاء على رأس السلطة مدى الحياة، وفي جعبته أفكار مثاليّة، لجهة تطبيق الديمقراطيّة، وتحقيق الرفاهية والعدالة، واحترام حرية الرأي والتعبير للمواطنين.
على مدى عقود، كان مفهوم غالبية الرؤساء العرب للحكم الديمقراطي، مفهوماً مشتركاً، إذ أنّ سلوكهم الدكتاتوريّ المستبدّ يبقى عندهم نهجاً وسلوكاً وتطبيقاً.
هدف واحد يجمعهم وهو الاستماتة في الحفاظ على المنصب، والبقاء على رأس السلطة، وإنْ أدّى ذلك إلى إذلال الشعب، وقهره، وكبت أنفاسه، وتجويعه وإحباطه، وتكفيره بوطنه ومستقبله.
كيف يمكن للعالم العربيّ أن ينهض، ولدوله أن تتقدّم لتجد مكانها الرفيع بين الأمم، وتواكب تطوّر شعوبها، فيما يحكمها عشاق للسلطة والمال، مغامرون، مقامرون، متسلطون، منتفعون، مستبدّون، يعتبرون أنفسهم أنصاف آلهة، كلّ ما يفعلونه حق، لا يقبل نقداً او جدلاً او اعتراضاً؟! حاكم بأمره، يأمر ويُطاع، لا قانون يحاسبه حتى ولو خرق الدستور، وأخلّ بوعوده، وطغى بـ «ديمقراطيته» المزيّفة.
كيف يمكن تحقيق التقدّم، وبناء الإنسان في هذا العالم العربي التعيس، فيما أنظمة الحكم فيه، تعطينا صورة فريدة واضحة عما آل إليه الانحطاط السياسيّ، والانهيار الاقتصادي والتدهور الأخلاقي، والاجتماعي والتفكّك الوطني، والانقسام الشعبي.
هل يُعقل أن يحكم رئيس في دولة ديمقراطية حقيقية «عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة أو أكثر؟! أيّ نوع من أنواع الديمقراطية الفريدة في جمهوريات العالم العربي، حيث معظم الحكام فيه لا يأتون إلا بانقلاب عسكري، ولا يرحلون إلا بانقلاب آخر أو باغتيال، أو بثورة شعبيّة، أو بالوفاة…
في تونس حكم الرئيس الحبيب بورقيبة لمدة 30 سنة بين عامي 1957 و 1987، لحين تمّ عزله بعد انقلاب قاده زين العابدين بن علي الذي تولّى السلطة لمدة 24 سنة بين عامي1987 و 2011، لتطيح به ثورة شعبية، أجبر على إثرها مغادرة البلاد نهائيّاً.
بذلك تكون تونس قد حكمت من قبل رئيسين لمدة 54 سنة ايّ أكثر من نصف قرن!
في ليبيا قام معمر القذافي بانقلاب عسكريّ أطاح بالنظام الملكي لإدريس السنوسي عام 1969، وتولى حكم ليبيا لمدة 42 سنة، ولحين الإطاحة به بثورة شعبية، ليتمّ قتله على يد الثوار.
في الجزائر، وبعد إطاحته بأحمد بن بيلا، أول رئيس للجمهورية بعد استقلالها، حكم هواري بومدين البلاد لمدة 13 سنة من عام 1965 وحتى وفاته عام 1978.
أما عبد العزيز بوتفليقة فقد دام حكمه للجزائر 20 سنة، انتهى بإرغامه على الاستقالة، بعد ثورة شعبية غير مسبوقة.
في مصر، قاد الرئيس جمال عبد الناصر البلاد منذ عام 1952، إثر ثورة قام بها، أطاحت بالنظام الملكيّ وحتى وفاته عام 1970، ولمدة 18 سنة.
تولّى الحكم من بعده أنور السادات لمدة 11 سنة انتهت باغتياله عام 1981.
ليأتي من بعده حسني مبارك، ليحكم مصر لمدة 30 سنة متواصلة 1981-2011.
حكم انتهى بثورة شعبية أرغمته على التنحّي ليحاكَم في ما بعد ويوضَع في السجن.
تولى الحكم من بعده عبد الفتاح السيسي عام 2013، حيث لا يزال على رأس السلطة حتى إشعار آخر. اذن ثلاثة رؤساء حكموا مصر لمدة 60 سنة بين عامي 1952 و2011.
أما في السودان، وبعد انقلاب عسكري قام به، حكم جعفر النميريّ البلاد لمدة 16 سنة، (1969-1985) وحتى الإطاحة به بانقلاب عسكريّ، مهّد لفترة انتقاليّة حتى عام 1989، ليقوم عمر البشير بانقلاب عسكري ويتولى الحكم لمدة 30 سنة (1989 ـ 2019).
انتهى حكمه بانقلاب عسكريّ وأودع السجن. بذلك حكم رئيسان السودان لمدة 48 سنة، وباسم الديمقراطية.
في الشمال اليمني حكم عبدالله صالح البلد لمدة 12 سنة، 1978-1990 واستمرّ في حكم اليمن بعد توحيد شطريه الشمالي والجنوبي، حيث دام حكمه 34 سنة، لحين الإطاحة به عام 2012 بثورة شعبية.
في الصومال حكم محمد سياد بري البلد بيد من حديد بين عامي 1969- 1991 لمدة 24 سنة بعد انقلاب عسكري قام به، لينتهي حكمه على يد حركات تمرّد قبلية.
في العراق، حكم صدام حسين البلد لمدة 24 عاماً 1979-2003، لينتهي حكمة على يد الغزو الأميركي للعراق، ولتتمّ بعد ذلك محاكمته وإعدامه.
في سورية تولى حافظ الأسد الحكم عام 1970، بعد إنقلاب عسكريّ قام به وحتى وفاته عام 2000، حيث دام حكمه 30 سنة، ليتولى من بعده ابنه بشار الحكم الذي دام 24 سنة حتى نهاية عام 2024، لينتهي حكمه بسيطرة المعارضة المسلحة على البلاد. بذلك يكون الأب والابن قد حكما سورية لأكثر من 54 عاماً…
أما الممالك العربيّة، والدول التي تحكمها أسر عائليّة تاريخيّة، فمدة الحكم مرتبطة بعمر حكامها، إلا إذا طرأ تعديل ما داخل العائلة الحاكمة.
حكام عالم عربي، يتشدّقون على الدوام بالديمقراطية، ويتباهون ويتغنّون بها، يزعمون أنّ حكمهم مستمدّ من إرادة شعوبهم.
فإذا هم في واد، وشعوبهم في واد آخر. في داخلهم يتجذر النهج الدكتاتوريّ مع الأيام، ليتركوا من بعدهم شعوبهم المقهورة تغوص في مستنقع من الفوضى، والاقتتال، والفقر، والتخلف.
ما دام الحاكم يعتبر نفسه نصف إله، وما دام الشعب يرضى بالطاعة العمياء، وبوضعه المزري الذي هو فيه، ويهتف لكلّ حاكم جديد، ويفديه بالروح والدم، ويرتضي أن يكون له عبداً ومطية، شعب لا يستحق الحياة.
إنّ تحرّر الذات، وتعزيز الانتماء، والولاء للوطن، وتهذيب العقل والفكر والسلوك والنهج، وإخراجهم من معتقلات الجهل والتعصّب، والحقد، والعصبية القبلية, والعنصرية المقيتة، والتحجر الطائفيّ، والكراهية العمياء، وعدم التسامح، كفيل بأن يحرّر ويبني أوطاناً تواكب تطورات العصر في مختلف المجالات العلمية، والفكرية والإبداعية، عوضاً عن أوطان وجدت نفسها في الحضيض، وعلى هامش تطوّر الأمم نتيجة استبداد الحكام، وتعطّشهم للسلطة، كلّ همّهم، الاستئثار بالحكم، وجمع الثروات من جيوب شعوبهم المقهورة.
بئس الديمقراطيات هي التي عرفها العالم العربي، التي تبدأ بانقلابات عسكرية وتنتهي بانقلابات أو بثورات شعبيّة، تسحق حكاماً وتقوّض أنظمتهم!
إنّها مهزلة الديمقراطية في العالم العربي، التي لم تترك وراءها إلا الفوضى، والثورات، والحروب الأهلية، والجهل والتخلّف وانهيار دول وتقسيمها!
محرّر أميركا اللاتينيّة سيمون بوليفار قال يوماً: «تحرير أمة راضية بالعبودية، أصعب من استعباد أمة حرة… وإنّ أخطر شيء على الوطن، أن يبقى الحاكم مدة طويلة في منصبه، لأنه سيتعوّد على الاستبداد، والشعب سيتعوّد على الطاعة والعبودية… وعندما يصبح الطغيان قانوناً، يصبح التمرّد حقاً»…