بعد شهر، سيستلم دونالد ترامب منصبه كرئيس للولايات المتحدة، والمقصود هو أكثر الرؤساء تعاطفاً في مواقفه عموماً مع إسرائيل، لكن بحسب التجربة السابقة، فهو أيضاً رئيس من الصعب توقع ردات فعله.
وهو يستلم منصبه على خلفية الإنجازات غير المسبوقة التي حققها الجيش الإسرائيلي وعناصر الاستخبارات في الأشهر الأخيرة في القضاء على القيادات والقدرات العملانية لكل من “حماس” وحزب الله، وفي سقوط الأسد وتدمير السلاح المتطور في سورية على يدَي سلاحَي الجو والبحر الإسرائيليَين.
ولقد تجددت قدرة الردع الإسرائيلية، والقدرات العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية هي اليوم محط إعجاب في المنطقة والعالم.
وبعيداً عن ظل الإخفاق في 7 تشرين الأول/أكتوبر، فإن هذا الإنجاز لا يحجبه سوى المراوحة في غزة والفشل في إعادة المخطوفين، وفي إزاحة “حماس” عن السلطة.
لقد ارتد الهجوم الاستباقي للسنوار سلباً على إيران وأذرعها، وتفككت حلقة النار لقاسم سليماني، ونزلت عائلة الأسد أخيراً عن المسرح، ويشكّل سقوطها ضربة قاسية لإيران وروسيا.
وإيران من دون أذرعها التي استثمرت مالاً هائلاً في بنائها أصبحت ضعيفة أكثر من أي وقت مضى، وتدرس بحذر خطواتها.
وفي إسرائيل، يُطرح السؤال: أليس من الصحيح استغلال الزخم الناشئ وضعْف إيران والشرعية الناشئة بسبب تورطها الفاعل في الحرب ودخول رئيس متعاطف البيت الأبيض من أجل ضرب البرنامج النووي الإيراني وتدمير التهديد الذي يمكن أن يتحول في المدى البعيد إلى تهديد وجودي؟ هذا السؤال في محله ويتطلب معالجة جدية.
المشكلة هي أن إيران هي في الواقع دولة على عتبة النووي؛ أي تملك ما يكفي من المواد المخصبة بدرجة عالية تكفي لبناء عدة منشآت نووية، ولديها بنى تحتية موزعة ومحصنة جيداً تسمح لها ببناء سلاح نووي يمكن تركيبه على رأس صاروخ.
لكن هذه أمور من الصعب جداً على إسرائيل معرفتها والتدخل في استكمالها، أي لا تملك إسرائيل القدرة على القيام بهجوم جوي جراحي من أجل تأجيل وصول إيران إلى النووي لأكثر من شهرين، وليس من الواضح إذا كان الأميركيون لديهم قدرة كهذه إزاء المنشآت النووية.
ومن جهة أُخرى، فمن الممكن جداً للهجمات المكثفة الأميركية والإسرائيلية المشتركة التي تستهدف أهدافاً نووية ومنشآت نفطية واقتصادية وبنى تحتية للحرس الثوري إذا استمرت لوقت طويل أن تؤدي إلى زعزعة النظام.
لكن هذا لن يحدث كما حدث في سورية؛ إذ لا يوجد في إيران متمردون يسيطرون على أصفهان أو مشهد مدعومون من قوة إقليمية كبيرة مجاورة (كتركيا بالنسبة إلى المتمردين السوريين) وينتظرون لحظة ضعف النظام، إنما بالعكس، فإيران كبيرة وأكثر استقراراً من نظام الأسد، على الرغم من الكراهية الكبيرة للنظام بين السكان، ومن الصعب حدوث هذا بسهولة.
إيران كجزء من النضال العالمي
وهذه ليست معضلة بسيطة بالنسبة إلى ترامب والقيادة الإسرائيلية على حد سواء، فتجد إسرائيل مضطرة إلى إجراء حوار عميق وعلى درجة عالية من الموثوقية مع الرئيس المقبل.
والسؤال هو: هل يجب مهاجمة إيران؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يجب التركيز على المنشآت النووية بهدف تدمير كل القدرات (وهو هدف ثمة شك في إمكان تحقيقه)؟
أم هل يجب التشديد على إلحاق الضرر بمجموعة من الأهداف النووية والاقتصادية والنفطية والحكومية، بهدف تقويض النظام وإسقاطه أو كشف ضعفه أمام أنظار مواطنيه خلال العملية؟
إن عملية مشتركة كهذه يجب أن يكون هناك إصرار على استكمالها، لأن ضربة جزئية فقط تترك النظام ضعيفاً، لكن يظل موجوداً، ويمكن أن يكون لهذا ثمن باهظ في شكل مبادرة إيران إلى تسريع الحصول على سلاح نووي لحماية النظام في وجه تدخُّل عسكري خارجي، وإنشاء توازُن ردع في مواجهة إسرائيل، الأمر الذي يسمح لها باستئناف تخريبها السياسي و”الإرهابي” وسعيها للهيمنة.
لا شك في أن إيران تدرس منذ اليوم إمكانات القفز نحو النووي سراً أو علناً (وهو الأقل ترجيحاً) كردٍ على ضعفها، لكن في هذه المرحلة، يظهر التردد الإيراني في هذا الشأن.
وهنا تأتي معضلة ترامب؛ فالشرق الأوسط هو جزء من لوحة أوسع كثيراً. ومن البيت الأبيض هو يرى صراعاً بين محورين عالميَين: “محور الديمقراطيات الليبرالية” بقيادة الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وبعض الدول التي “لديها التفكير نفسه” (كندا، وأستراليا، ونيوزيلندا، واليابان، وكوريا الجنوبية وغيرها)، في مواجهة “محور الاستبداد والدول المارقة” بقيادة الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية.
يوجد بين المحورين 3 نقاط صراع نشيطة تنطوي على مخاطر كبيرة للتصعيد: الحرب في أوكرانيا، والحرب في الشرق الأوسط، والصراع المحتدم في تايوان.
وهذا هو الصراع عينه الذي شهده بايدن، لكن بنهج مختلف. ترامب هو من أتباع “الانعزالية الاستراتيجية” التي تعود جذورها إلى أوائل القرن التاسع عشر، وقد جرى استخدامها منذ ذلك الحين 6 مرات في عهود رؤساء أميركيين متعددين…
على الأرجح أن يسعى ترامب في إطار الصراع بين المحورين للتوصل بسرعة إلى نهاية الحرب في أوكرانيا…
وسيسعى للحد من العداء في مضيق تايوان، وخفْض التوتر مع الصين على الرغم من الحرب التجارية والرسوم الجمركية..
والأكيد أنه سيروج لإنهاء الحرب في الشرق الأوسط، وعودة المختطَفين، وإنهاء القتال في غزة، والتسوية السياسية في لبنان، وإنهاء الصراع مع إيران، وسيقدم دعماً أميركياً إلى تسوية إقليمية تتضمن تطبيعاً للعلاقات بين إسرائيل والسعودية عبر مخطط غامض للمضي قُدُماً في مسار “الدولتين”، وهو ما سيوفر للسعودية ذريعة لدخول عملية التطبيع.
ومن الممكن أن يقدم ترامب دعماً استراتيجياً إلى السعودية، وخصوصاً في مواجهة إيران.
وفي تقديري، فسيميل ترامب إلى الاستسلام لإسرائيل بشأن التفاصيل، وسيسمح لها بقدر معين من حرّية التصرف…
لكنه ربما يصر ويفرض رأيه بطريقة أكثر وضوحاً من إدارة بايدن في قضايا تبدو له مركزية، وذلك لأسبابه الخاصة.
ترامب لن يقود، لكنه ربما يترك الحبل أكثر لإسرائيل
ماذا يعني ذلك بالنسبة إلى القرارات المتعلقة بإيران؟ أميل إلى تقدير أن ترامب لن يرغب في أن يكون المبادر أو القائد لهجوم على إيران، إنما بعكس ذلك، لأن جزءاً من الاتفاق مع بوتين لإنهاء الحرب في أوكرانيا يمكن أن يتضمن دوراً لروسيا في كبح جماح إيران.
وفي مواقف معيّنة، يمكن أن يحاول ترامب استخدام بوتين والصينيين لإقناع إيران بدخول اتفاق نووي جديد أفضل من الاتفاق السابق (الذي انسحب منه ترامب بتأثير من نتنياهو).
إن الهجوم الشامل على إيران يشكّل ضرراً لمجموع دول “المحور”، وسيُلحق ضرراً بروسيا، التي تزودها إيران بالأسلحة والمسيّرات في الحرب في أوكرانيا، وسيضر بالصين، وهي عميل رئيسي للنفط الإيراني.
ولا يمكن لإسرائيل أن تشن هجوماً واسع النطاق ضد إيران من دون دعم مضمون من الرئيس الأميركي، بسبب الحاجة إلى الأسلحة والدعم اللوجستي و”الشراكة الإقليمية” في الدفاع ضد الهجمات الصاروخية الإيرانية، وكذلك الدعم الأميركي في مجلس الأمن.
ومع ذلك، فربما يفكر ترامب بالتأكيد في إمكان قيام إسرائيل بشن هجوم واسع النطاق ضد إيران، بمبادرة منها وعلى مسؤوليتها (لكن باتفاق ضمني وتنسيق مع الرئيس).
وبهذه الطريقة، فسيتمكن ترامب من مراقبة نتائج الهجوم من دون أن يكون مسؤولاً عنه، وأن يقرر بناءً على نتائجه أياً من الطرق الثلاث سيختار: فإذا بدا نظام آية الله متذبذباً، من الممكن أن ينضم إلى العملية ويحسمها.
أمّا إذا صمد نظام آية الله أمام الضربات، فسيعتبر الضربات عاملاً ساهم في إضعاف النظام.
وربما سيختار أن يكون الشخص “البالغ المسؤول”، والذي “يدخل الحدث”، ويضع حداً له ويحقق تسوية دبلوماسية متعددة الأطراف، تتوسطها أميركا.
بالنسبة إلى إسرائيل، فإن مهاجمة إيران تنطوي على مخاطر أكبر كثيراً من القيام بعملية مشتركة مع الولايات المتحدة، لكن الحكومة الإسرائيلية ستضطر إلى التفكير ملياً في كل المعطيات التي أمامها.
والسبب هو أنه من وجهة نظر إسرائيل، وانطلاقاً من التزامها الطويل الأمد، فإن هناك أهمية كبيرة وعملية ورمزية لاستنفاد ما يمكنها القيام به من أجل منع إيران من الحصول على سلاح نووي، لأنه من المشكوك فيه أن تنشأ نقطة ضعف في المستقبل بالنسبة إلى إيران قبل حصولها على سلاح نووي، ولأن التهديد الرئيسي الذي تشكله القوة النووية الإيرانية على المدى الطويل سيكون موجهاً إليها.
وسيكون حدثاً تاريخياً مؤلماً أن يتراجع رئيس أميركي، في لحظة الحقيقة، عن التحرك، بعد أن وعد مرات عديدة كأسلافه في الأعوام العشرين الماضية بأن إيران لن تحصل أبداً على سلاح نووي.
إن العامل الحاسم في هذه المعضلة يجب أن يكون عبر التقدير الرصين للمسألة التالية: هل هناك فرصة حقيقية لأن تؤدي عملية كهذه إلى الإطاحة بالنظام في إيران؟ وهل هناك ثقة عميقة بأن يتحرك الرئيس ترامب فعلاً.
لا توجد وسيلة للتأكد من هذه المسألة، لكن لا بديل من بذل أقصى الجهد للتوصل إلى التوازن الصحيح بين الجرأة والتعقل والخيال الإبداعي والمسؤولية. هذه فترة مصيرية، وكلنا سنتحمل العواقب بطريقة أو بأُخرى.