يظل الفساد هو العائق الأكبر أمام التنمية الاقتصادية والاجتماعية في معظم دول العالم، ولا سيما في البلدان النامية التي تشهد تصاعدًا في معدلات الفقر والتخلف.
وقد أثبتت الدول المتقدمة منذ عقود حقيقة أن القضاء على الفساد هو السبيل الوحيد لضمان استقرار اقتصادي واجتماعي.
ولكن رغم هذه الحقائق المعلومة، تشير تقارير منظمة الشفافية الدولية إلى أن الفساد ليس مجرد ظاهرة محلية، بل يمتد عبر الحدود ويشمل شركات عملاقة تتورط في ممارسات فاسدة، مما يزيد من تعقيد المشكلة.
تمثل هذه الشركات العالمية، مثل أيرباص الفرنسية، وسيمنز الألمانية، وبي أي إيه سيستيمز البريطانية (أكبر شركة أوروبية للأسلحة)، وألستوم الفرنسية، بعضًا من أبرز الأمثلة على الشركات التي تورطت في قضايا فساد دولي، حيث قامت بدفع رشى لمسؤولين في دول مختلفة، بما في ذلك مصر، للحصول على عقود غير قانونية.
وعلى الرغم من تشديد القوانين لمكافحة هذه الممارسات، ما يزال الفساد يهدد الاستقرار السياسي والاقتصادي في العديد من البلدان.
في مطلع هذا العام، كشفت وزارة العدل الأميركية عن فضيحة تتعلق بشركة إيرباص، التي دفعت رشى لمسؤولين في الصين ودول أخرى للحصول على عقود. بلغ إجمالي الغرامات التي فرضتها السلطات الأميركية على الشركة حوالي 4 مليارات دولار، وقد تم الشكر في التحقيقات على التعاون بين السلطات الأميركية والبريطانية والفرنسية في كشف التعاملات الفاسدة التي قامت بها الشركة.
هذا الحادث لا يمثل سوى جزء من المشهد الأكبر للفساد الدولي، حيث نجد شركات أخرى مثل سيمنز الألمانية، التي تورطت في دفع رشى لمجموعة من الدول بما فيها الصين، روسيا، الأرجنتين، إسرائيل، فيتنام، بنغلادش، فنزويلا، المكسيك، اليونان، نيجيريا، العراق، ومصر، في سبيل الحصول على عقود كبيرة.
تستعرض التحقيقات كيف أن سيمنز دفعت ما يزيد عن 1.4 مليار دولار في شكل رشى لمسؤولين حكوميين في هذه الدول، بما في ذلك عقود كبيرة في العراق ضمن برنامج “النفط مقابل الغذاء”.
وعندما داهمت الشرطة الألمانية مقر الشركة في ميونيخ، حاولت الشركة نفي التهم، موجهة اللوم إلى “عصابة إجرامية” داخلها. ولكن في النهاية، اضطرت سيمنز إلى دفع غرامات ضخمة بلغت 450 مليون دولار لوزارة العدل الأميركية، بالإضافة إلى 350 مليون دولار لمفوضية السندات والتبادل التجاري الأميركية، و569 مليون دولار للسلطات الألمانية، لإغلاق القضايا المتعلقة بالفساد. كما كانت قد دفعت غرامة بقيمة 285 مليون دولار في عام 2007 لحل قضايا فساد مماثلة.
تستمر هذه الشركات في دفع الغرامات لتسوية القضايا المتعلقة بالرشوة، بينما لا تحصل الدول المتضررة من فساد هذه الشركات على أي تعويضات حقيقية.
من بين هذه الدول، مصر هي واحدة من أكبر المتضررين، حيث قامت شركة سيمنز، بناءً على عقد مباشر، ببناء محطات لتوليد الكهرباء، وهو العقد الذي يحمل العديد من علامات الاستفهام حول الشفافية والنزاهة.
المسؤولون المصريون والشركات الفاسدة
من الواضح أن الفساد في مصر لا يقتصر فقط على الشركات الأجنبية، بل يمتد إلى المسؤولين المحليين الذين يتورطون في قبول الرشى، مما يساهم في تأجيج الأزمة.
وقد أكدت التحقيقات أن العديد من الوزراء والمسؤولين في الحكومة المصرية قاموا بتسلم رشى مقابل إبرام عقود مع شركات كبرى، بما في ذلك سيمنز، على حساب المصلحة العامة.
ويعتبر هذا النوع من الفساد من أخطر القضايا التي تواجهها مصر، حيث لا يقتصر تأثيره على الاقتصاد الوطني فقط، بل يتعداه إلى خلق بيئة غير مستقرة تساهم في إعاقة التنمية في البلاد.
على الرغم من التصدي المتزايد من قبل الدول الغربية للفساد الدولي، إلا أن التحقيقات تكشف عن أن الكثير من الدول الكبرى لا تزال تعاني من فساد عميق داخل شركاتها الكبرى.
وإن كان هذا الفساد لا يقتصر على الشركات فقط، بل يمتد إلى الحكومات التي لا تتخذ إجراءات كافية لمحاسبة الشركات الفاسدة.
الفساد في مصر: التحديات والفرص
تشير التقارير إلى أن الفساد في مصر ليس مجرد ظاهرة سطحية، بل هو بنية معقدة مدعومة من لوبيات قوية تتوسط بين الشركات الكبرى والمسؤولين الفاسدين.
ويتبين أن هناك تحالفًا غير معلن بين بعض الشركات الدولية وأركان السلطة في مصر، حيث يتم تبادل المنافع الشخصية على حساب المصلحة العامة. وتزداد الأمور تعقيدًا عندما يصبح الفساد مؤسسة قائمة تعمل على حماية نفسها من المحاسبة، ما يجعل من الصعب التخلص منها.
ومع ذلك، يظل الطريق إلى الإصلاح طويلًا وشاقًا، حيث أن الفساد لا يقتصر على الأفراد فقط بل يشمل أيضًا السياسات والقوانين المعمول بها.
ولابد من إدراك حقيقة أن الإصلاح يتطلب إرادة سياسية حقيقية، بالإضافة إلى تفعيل دور المؤسسات الرقابية في محاربة الفساد. ويجب على مصر، ودول أخرى تعاني من فساد مماثل، أن تتبنى تشريعات أكثر صرامة لمكافحة الرشوة، وأن تكون هناك شفافية في جميع جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية.
التعاون الدولي في مكافحة الفساد
يجب أن يكون التعاون الدولي أكثر فاعلية في محاربة الفساد عبر الحدود. فقد أظهرت التحقيقات في أيرباص وسيمنز أن التعاون بين الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في مكافحة الرشوة يحقق نتائج ملموسة، كما أن المحاسبة المالية للشركات التي تسيء استخدام سلطتها يجب أن تكون أكثر صرامة.
ورغم هذه الجهود، لا يزال الطريق طويلًا لتفعيل القوانين بشكل أوسع على مستوى العالم، خاصة في الدول النامية.
إن الفساد الدولي لا يمكن أن ينتهي إلا بتعاون حقيقي بين الحكومات والشركات والمجتمع المدني. إن الحلول الجذرية تكمن في تقديم محاسبة عادلة لجميع الأطراف المتورطة في الفساد، ووضع آليات أكثر صرامة لرصد ومنع الرشوة، بالإضافة إلى تقديم الدعم للدول المتضررة من هذا الفساد.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط