تكشف تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات عن تجاوزات صارخة وانتهاكات جسيمة في قطاع الكهرباء المصري، حيث تنكشف شبكة من الصفقات المشبوهة التي تشمل 15 شركة تعمل في تصنيع الأعمدة الكهربائية، والتي تتواطأ مع شركات توزيع الكهرباء التسع في صفقات مخالفة للقوانين، متسببين في تحميل المواطنين أعباء مالية طائلة دون أي مبرر قانوني أو اقتصادي في فضيحة من العيار الثقيل.
والأمر الأكثر خطورة هو أن هذه التجاوزات تحدث في ظل تقاعس مريب من الحكومة المصرية ووزارة الكهرباء والشركة القابضة لكهرباء مصر، التي ترفض اتخاذ إجراءات جادة للحد من هذه المخالفات. فما يحدث في القطاع الكهربائي المصري هو نتيجة مباشرة لتقاعس رقابي وفساد مستشري في كل أرجائه.
التواطؤ بين الشركات الحكومية والخاصة
بدأت القصة عندما تم الكشف عن أن 15 شركة من الشركات العاملة في مجال تصنيع الأعمدة الكهربائية قد ارتكبت جريمة التواطؤ مع شركات توزيع الكهرباء التسع، من خلال التنسيق المسبق في المناقصات التي تم الإعلان عنها لشراء أعمدة حديد ومواسير مجلفنة بمختلف المقاسات.
هذا التواطؤ بين الشركات الكبرى والشركات التابعة للشركة القابضة لكهرباء مصر، التي تدير شركات التوزيع، أدى إلى تثبيت الأسعار لصالح هذه الشركات، مما ساهم في رفع الأعباء المالية على شركات توزيع الكهرباء، وبدوره ألقى بتبعات ثقيلة على الموازنة العامة للدولة.
وعلى الرغم من أن هذه التجاوزات كانت واضحة للجميع، إلا أن الجهاز المركزي للمحاسبات لم يجد أي تحرك فعلي من الحكومة أو وزارة الكهرباء لمحاسبة المسؤولين.
انتهاك قوانين حماية المنافسة
وفقًا لتقرير جهاز حماية المنافسة، فإن هذه الممارسات تعتبر من أخطر جرائم المنافسة التي تُضر بالسوق المصري بشكل عام. الاتفاقات التي تمت بين الشركات وتوزيع الكهرباء لا تقتصر على تقويض المنافسة داخل السوق، بل تؤدي إلى زيادة الأسعار، مما يؤثر بشكل مباشر على المستهلكين.
كما أن هذه المخالفات تتناقض مع القانون المصري الذي ينص على حرية المنافسة في كافة القطاعات الاقتصادية، بما في ذلك قطاع الكهرباء.
جهاز حماية المنافسة يوضح أن هذه الممارسات تؤدي إلى تعطيل آليات السوق، وهو ما ينعكس سلبًا على الاقتصاد المصري، ويجعل الاستثمارات الأجنبية والمحلية تشعر بعدم الأمان نتيجة تحكم الشركات في السوق.
وبحسب تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات، فإنه تم التوصل إلى أن الشركات التي تواطأت مع شركات توزيع الكهرباء قد زادت من تكاليف المشروعات المقررة، ما يؤدي إلى تحميل الموازنة العامة للدولة أعباء مالية إضافية لا مبرر لها.
الجهاز أكد أن هذه التجاوزات تتنافى تمامًا مع قواعد المنافسة، والتي تقتضي بوجود سوق حرة يستطيع الجميع من خلالها التنافس بشكل عادل، بعيدًا عن أي تلاعب أو اتفاقات سرية.
الفساد في جهاز حماية المستهلك
ولكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتعدى ذلك ليشمل جهاز حماية المستهلك الذي من المفترض أن يكون حاميًا للمواطنين ضد هذه الممارسات الفاسدة.
إذ كشفت التقارير عن تورط رئيس جهاز حماية المستهلك في قضايا فساد متعددة، حيث تبين أن رئيس الجهاز قد تقاضى مبلغًا ماليًا يصل إلى أكثر من 120 ألف جنيه قبل أن يُعين في منصبه، ولم يقم برد هذا المبلغ حتى الآن.
فضلاً عن ذلك، فإن رئيس الجهاز يحصل على راتبين من جهتين مختلفتين بالمخالفة للقانون. ويقال إن الجهاز، الذي من المفترض أن يكون مراقبًا وصارمًا في محاسبة الشركات المخالفة، يتحول إلى مجرد هيئة على الورق لا تقوم بأي دور حقيقي لحماية المواطنين من التجاوزات التي تحدث في قطاع الكهرباء.
وقد تم الكشف عن أن رئيس الجهاز قد قام بتعيين عشرات المستشارين، وأطلق المبالغة في مصروفات الجهاز، بما في ذلك شراء سيارات جديدة من نوع “فيرنا” موديلات حديثة، حيث تم تخزينها في جراج القرية الذكية دون أن تُستخدم في أي عمل رسمي.
والأسوأ من ذلك، أن هذه السيارات قد تصبح خردة قريبًا إذا استمر الوضع على ما هو عليه، مما يعد هدرًا للمال العام. وكل هذا يحدث في وقت يعاني فيه المواطنون من غلاء الأسعار وزيادة الأعباء المالية.
ممارسات شركات توزيع الكهرباء المخالفة
وفي ما يخص شركات توزيع الكهرباء، تبين من خلال فحص جهاز حماية المنافسة أن هذه الشركات تقوم بفرض شروط غير قانونية على المواطنين، حيث تلزمهم بشراء العدادات الكهربائية من هذه الشركات بأسعار مرتفعة، رغم أن القانون لا يلزم المستهلك بشراء العداد من الشركة نفسها.
في تقرير الجهاز، تم التأكيد على أن هذه الممارسات تتعارض مع قانون حماية المنافسة، فضلاً عن مخالفتها لقوانين كود توزيع الكهرباء الذي ينص على أن العداد ملك لشركات التوزيع وموجود في حيازة المستهلك على سبيل الأمانة، وهو ما يجهله العديد من المواطنين.
كما ورد في التقرير أن هذه الشركات قد فرضت على المواطنين شراء العدادات بأسعار مرتفعة، وهو ما يعد مخالفة صريحة للقانون، حيث أن القانون ينص على أن هذه العدادات ليست ملكًا للمستهلك وأنه يحق له شراء العداد من أي جهة أخرى.
ولقد أشارت تقارير جهاز حماية المنافسة إلى أن هذا التلاعب في الأسعار يضر بحرية السوق ويزيد الأعباء المالية على المواطن المصري.
غموض التشريعات وصمت الحكومة
من الأزمات الكبرى التي تواجه قطاع الكهرباء في مصر هي غموض التشريعات التي تنظم هذا القطاع، خاصة فيما يتعلق بتوزيع الكهرباء.
فالعديد من المواطنين يعتقدون أن شركات توزيع الكهرباء ليست خاضعة لقانون حماية المنافسة، وهو ما يتناقض مع النصوص القانونية الصريحة التي تؤكد أن هذه الشركات يجب أن تلتزم بقانون حماية المنافسة. هذا اللبس في التشريعات يعمق من الأزمة، حيث يسهم في حماية الفساد وعدم مساءلة المسؤولين عن هذه الممارسات الفاسدة.
وفيما يتعلق بتقارير الجهاز المركزي للمحاسبات، فقد أوصى بضرورة اتخاذ إجراءات حاسمة ضد شركات التوزيع المخالفة وضرورة وضع آليات رقابية قوية تضمن عدم تكرار هذه المخالفات.
وقد أشار التقرير إلى ضرورة منح هذه الشركات مهلة ثلاثين يومًا لتوفيق أوضاعها وإزالة المخالفات، وذلك من خلال نشر إعلانات في الصحف الواسعة الانتشار تفيد بوقف هذه الممارسات، والسماح للمواطنين بتركيب العدادات من خارج الشركات، مع التأكد من معايرتها وفقًا للمواصفات.
التقاعس الحكومي المستمر
على الرغم من هذه التوصيات، فإن الشركة القابضة لكهرباء مصر وشركات توزيع الكهرباء التابعة لها لم تتخذ أي خطوات جادة لمعالجة هذه المخالفات.
وبمرور الوقت، تستمر هذه الشركات في تنفيذ ممارسات غير قانونية دون أن تتحمل الحكومة أو الوزارة مسؤولياتهم في تصحيح هذا الواقع.
مستقبل القطاع الكهربائي المصري
إن ما يحدث في قطاع الكهرباء في مصر هو نتيجة طبيعية لغياب الرقابة، والفشل في تطبيق القوانين بشكل صارم. في ظل وجود هذه الشركات التي تسيطر على السوق، والشركات الحكومية التي تقف مكتوفة الأيدي أمام الفساد، أصبح من المستحيل أن يتم الإصلاح في هذا القطاع بدون محاسبة حقيقية للمتورطين في هذه التجاوزات.
لابد من العمل على تطوير التشريعات وتنفيذها بصرامة، كما يجب تعزيز الرقابة على جميع الشركات الحكومية والخاصة في هذا القطاع.
فما يحدث في قطاع الكهرباء في مصر هو نتيجة مباشرة لعدم وجود آليات رقابية فعالة وغياب الشفافية في تعاملات الشركات مع المواطنين.
إن الممارسات الفاسدة التي تكشفها التقارير الرسمية تتطلب تحركًا فوريًا من الحكومة ووزارة الكهرباء. وبدون إصلاحات حقيقية، فإن المواطن المصري سيظل ضحية لهذا الفساد، الذي يزداد استفحالًا يومًا بعد يوم.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط