في خطوة تثير العديد من التساؤلات وتكشف عن تواطؤ الحكومة المصرية في إدارة ثروات البلاد، وافق مجلس النواب على استيراد القمح من الإمارات، وهي خطوة أثارت الكثير من الانتقادات، حيث تبين من خلالها مدى الفساد الذي ينخر في مؤسسات الدولة.
الاتفاق الذي أبرم بين الحكومة المصرية وشركة الظاهرة، وهي إحدى صناديق الثروة السيادية في أبوظبي، يتضمن توريد القمح إلى مصر بطريقتين الأولى عن طريق القمح المزروع في أراضي مصر بمنطقة توشكى، والثانية عن طريق طرح مناقصة دولية لشراء القمح بالجنيه المصري.
ما يزيد من فداحة الأمر أن مصر ستقوم بشراء القمح من الإمارات بقيمة 500 مليون دولار، وهو مبلغ كبير يثير علامات استفهام حول دوافع الحكومة المصرية في إهدار هذه الأموال على صفقة يمكن إنجازها داخليًا عبر تنشيط الزراعة المحلية.
الشركة الإماراتية “الظاهرة”، التي أبرمت الصفقة، كانت قد وردت خلال السنوات الماضية 180 ألف طن من القمح إلى مصر، وهي كمية لم تلبِّ احتياجات السوق المحلي وتؤكد على ضعف الجدوى الاقتصادية لهذه الصفقات المشبوهة.
الصفقة ليست جديدة، فقد بدأت منذ عام 2014 حينما أعلنت الشركة عن نيتها التوسع في زراعة القمح بمصر، مستهدفة إنتاج 300 ألف طن من هذا المحصول الاستراتيجي.
ولكن في عام 2019 قامت الحكومة المصرية بسحب بعض الأراضي من شركة “الظاهرة” بسبب عدم التزامها بالجدول الزمني المتفق عليه لزراعة القمح في توشكى،
هذا السحب للأراضي جاء بعد فشل الشركة في تحقيق الوعود التي قطعتها، إلا أن الحكومة المصرية لم تستفد من هذا الدرس، وعادت اليوم لتبرم معها صفقة جديدة، مما يعكس مستوى غير مسبوق من التسيب والفساد في إدارة موارد البلاد.
الأمر المثير للسخرية هو أن شركة “الظاهرة” استحوذت على 500 ألف فدان في مصر على مراحل متعددة، بحسب ما ورد العام الماضي. هذه المساحات الشاسعة من الأراضي المصرية باتت تحت سيطرة الشركة الإماراتية، التي تبيع القمح لمصر عبر وكيل حكومي جديد.
المفارقة تكمن في أن الحكومة المصرية تسمح لهذه الشركة بزراعة القمح على الأراضي المصرية، ثم تشتريه بأسعار باهظة، ما يؤدي إلى تضخم الفاتورة الغذائية التي يتحملها المواطن المصري البسيط، بينما تستفيد جهات خارجية من ثروات البلاد.
وفي وقت مبكر من شهر ديسمبر 2024، تم تكليف جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة بمسؤولية استيراد السلع الاستراتيجية، وهو جهاز تم تأسيسه عام 2022 ويعد أحد الأذرع التنموية للقوات المسلحة المصرية.
الجهاز الذي يخضع لإدارة القوات الجوية يتحكم الآن في استيراد القمح وتوزيعه، مما يثير مخاوف عديدة حول مدى شفافية هذه العملية وحقيقة الدوافع وراء إسناد هذه المهمة لجهاز مرتبط بالقوات المسلحة.
يرى مراقبون أن هذه الصفقة وما تبعها من إجراءات تجعل الدولة المصرية تبدو كأنها تتخلى عن أراضيها لصالح جهات خارجية، وتسمح لها بزراعة القمح الذي يتم بيعه مرة أخرى للمصريين على أراضيهم الخاصة. هذا النموذج الكارثي في إدارة الثروات المحلية يعكس مدى فساد الحكومة المصرية وغياب أي رؤية استراتيجية لإدارة الموارد الطبيعية للبلاد.
كما أشار المراقبون إلى أن القوات المسلحة باتت تتحكم بشكل كامل في عملية توزيع القمح على المواطنين، وهو أمر يطرح العديد من التساؤلات حول دور الجيش في الحياة المدنية وتداخله في النشاط الاقتصادي.
هذا الوضع يكرس السيطرة الاقتصادية للجيش ويعزز من هيمنة المؤسسات العسكرية على القطاعات الحيوية في الدولة، وهو ما يتعارض مع مبادئ الإدارة الرشيدة التي تقوم على الشفافية والمحاسبة.
إن ما يحدث في ملف استيراد القمح من الإمارات يعكس صورة قاتمة لمستقبل الأمن الغذائي في مصر، حيث تقوم الحكومة بإهدار موارد البلاد لصالح شركات أجنبية دون تقديم أي مبررات منطقية لهذا التصرف.
بدلاً من تشجيع الزراعة المحلية وتطوير البنية التحتية الزراعية في مصر، تفضل الحكومة استيراد القمح من الخارج بأسعار مرتفعة، مما يزيد من الأعباء الاقتصادية على الدولة ويضعف استقلالها الاقتصادي.
الخطر الأكبر في هذه السياسات يكمن في أن مصر، التي كانت تاريخيًا واحدة من أكبر المنتجين الزراعيين في المنطقة، أصبحت اليوم تعتمد بشكل كبير على استيراد القمح من الخارج لتلبية احتياجاتها الغذائية.
هذا الاعتماد المتزايد على الخارج في تأمين الغذاء يهدد الأمن القومي للبلاد ويجعلها عرضة للأزمات الاقتصادية والسياسية التي قد تؤثر على إمدادات الغذاء.
ولا يمكن النظر إلى صفقة استيراد القمح من الإمارات إلا كحلقة أخرى في سلسلة الفساد التي تعاني منها مصر. الحكومة المصرية، التي تبدو عاجزة عن إدارة مواردها بكفاءة، اختارت طريق التبعية الاقتصادية لصالح جهات خارجية، متجاهلة تمامًا مصلحة الشعب المصري.
هذه السياسات ستؤدي بلا شك إلى تدهور الاقتصاد المصري وزيادة الأعباء على المواطن البسيط الذي يدفع الثمن دائمًا جراء سوء إدارة الحكومة لثروات البلاد.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط