رحل عن عالمنا الدكتور يحيى القزاز، أستاذ الجيولوجيا بجامعة حلوان، والسياسي المعارض البارز عن عمر يناهز 68 عامًا، تاركًا إرثًا عظيمًا من النضال السياسي والدفاع عن الحقوق والحريات.
القزاز لم يكن مجرد أكاديمي ناجح في مجال تخصصه، بل كان رمزًا للشجاعة والمواقف الصلبة في وجه الظلم والاستبداد. فقد رفض الانحناء تحت وطأة الضغوط، وظل متمسكًا بمبادئه حتى اللحظة الأخيرة.
موقفه الصلب ضد مبارك
كان الدكتور يحيى القزاز من أوائل الأكاديميين الذين وقفوا بجرأة في وجه نظام الرئيس السابق حسني مبارك. لم يخفِ اعتراضه على سياسات مبارك الاستبدادية، وكان دائمًا حريصًا على أن يكون صوته مسموعًا من خلال مقالاته وآرائه التي وجهها نقدًا لاذعًا للنظام القائم آنذاك.
تلك المقالات كانت بمنزلة صرخات احتجاج ضد الفساد والظلم، ودعوات ملهمة للشعب المصري للوقوف صفًا واحدًا في مواجهة الطغيان. وقد تعرض القزاز للاعتقال أكثر من مرة نتيجة مشاركته الفعالة في المظاهرات والإضرابات الشعبية التي كانت تهدف إلى إسقاط النظام الفاسد.
ومع اندلاع ثورة 25 يناير 2011، كان القزاز في طليعة الذين نزلوا إلى الشوارع، حيث وقف مع الشباب الثوار منذ اللحظة الأولى، مؤمنًا بأن الوقت قد حان للتغيير الجذري في مصر.
لم يكن القزاز مجرد مراقب من بعيد، بل كان مشاركًا أساسيًا في الحدث التاريخي الذي غير مجرى تاريخ مصر. واصل القزاز دعمه للثورة بكل ما أوتي من قوة، مؤكدًا أن الحرية والعدالة هما السبيل الوحيد لتحقيق مستقبل أفضل للوطن.
معارضته المستمرة للسيسي
بعد رحيل مبارك، لم تهدأ مسيرة يحيى القزاز النضالية. فمع وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى السلطة، استمر القزاز في نقده الجريء لأي ممارسات قمعية أو سياسات تضييق على الحريات.
لم يكن يخشى من التعبير عن آرائه المعارضة، حتى وإن كلفه ذلك المزيد من المضايقات والاعتقالات. في عام 2018، تعرض القزاز للاعتقال مع عدد من الشخصيات السياسية المعارضة البارزة، وكان ذلك على خلفية مواقفهم الجريئة وانتقاداتهم العلنية للنظام.
لم يكن الضغط السياسي هو العائق الوحيد الذي واجهه الدكتور يحيى القزاز. بل واجه أيضًا تحديات في مسيرته الأكاديمية، إذ تعرض للتضييق من قبل السلطات الجامعية.
جامعة حلوان أحالته إلى مجلس تأديب بتهمة الإساءة لرئيس الجمهورية، وذلك بعد مذكرة رفعها عميد كلية العلوم. ورغم هذه الضغوط، ظل القزاز ثابتًا على مواقفه، مؤمنًا بأن الحق لا يضيع وأن الحرية هي الأساس الذي يجب أن تقوم عليه المؤسسات الأكاديمية في مصر.
مسيرة أكاديمية ملهمة
على الصعيد الأكاديمي، كان الدكتور يحيى القزاز شخصية مرموقة في مجال الجيولوجيا. حصل على درجة الدكتوراه من جامعة حلوان وأصبح أستاذًا بارزًا في كليتها للعلوم.
وكان يحظى بتقدير كبير بين طلابه وزملائه على حد سواء، ليس فقط لما يتمتع به من معرفة علمية واسعة، بل أيضًا لالتزامه بالقيم الإنسانية والأخلاقية التي طبقها في تعامله الأكاديمي.
القزاز لم يكن مجرد أستاذ جامعي، بل كان قدوة يُحتذى بها، نموذجًا للأستاذ المثقف الذي لا يفصل بين عمله الأكاديمي ودوره في المجتمع.
لقد آمن القزاز بأن التعليم هو الأداة الأساسية لإحداث التغيير الإيجابي في المجتمع. ولهذا، كان دائمًا ما يدعو إلى استقلال الجامعات وحرية التعبير داخلها، وكان أحد الأعضاء المؤسسين لحركة 9 مارس من أجل استقلال الجامعات.
هذه الحركة كانت تجسد إيمانه الراسخ بضرورة فصل التعليم عن أي تدخلات سياسية، وضمان أن تكون الجامعات مكانًا للحوار الحر والإبداع الفكري.
تحديات ومواقف لا تُنسى
مسيرة الدكتور يحيى القزاز السياسية والأكاديمية كانت مليئة بالتحديات والمواقف الشجاعة. فقد تعرض للعديد من المحاكمات والملاحقات الأمنية، وكان أبرزها في سبتمبر 2018، عندما أيدت محكمة جنايات القاهرة قرار التحفظ على أمواله بتهمة الانضمام إلى جماعة إرهابية والترويج لأهدافها.
هذه التهم لم تُثنِ القزاز عن الاستمرار في التعبير عن آرائه ومواقفه، بل زادته إصرارًا على مواجهة الظلم والدفاع عن حقوق الشعب المصري.
لم يكن القزاز يسعى إلى تحقيق مكاسب شخصية أو مناصب سياسية. بل كان دافعه الوحيد هو الإيمان بقضايا الوطن وحقوق المواطنين في العيش بحرية وكرامة.
هذا الالتزام الراسخ بمبادئه جعله يحظى بتقدير واحترام الكثيرين، سواء من زملائه الأكاديميين أو من الشباب الذين وجدوا فيه نموذجًا للمناضل الذي لا ينكسر.
إرث خالد وتأثير لا يمحى
برحيل الدكتور يحيى القزاز، فقدت مصر أحد أبرز رموزها في النضال من أجل الحرية والعدالة. سيظل اسمه محفورًا في ذاكرة الأجيال، وسيظل مثالا للنضال الشريف الذي لا يعرف المساومة.
فالقزاز كان وما زال نموذجًا للإنسان الذي لم يتخلَ عن مبادئه رغم الصعاب، وكان دائمًا مستعدًا للتضحية من أجل قناعاته.
لقد ترك الدكتور يحيى القزاز بصمة لا تُمحى في الحياة الأكاديمية والسياسية المصرية. مسيرته الطويلة كانت شاهدة على ما يمكن أن يحققه الإنسان عندما يكرس حياته لخدمة الآخرين والدفاع عن الحق.
سيتذكره الجميع كأستاذ جامعي متميز ومفكر شجاع ومناضل لا يعرف الخوف، رجل قدم للوطن كل ما يملك من علم وفكر وشجاعة
نسخ الرابط تم نسخ الرابط