منذ ساعات الفجر الأولى، تخرج سيارات محمّلة بأحجار ثقيلة من قرية الديابة بمحافظة المنيا، التي تبعد عن المحاجر نحو 40 كيلومترًا. تنتشر الغبار الأبيض من السيارات التي يركبها نحو ثلاثين عاملاً، بينهم أطفال في سن لا تتجاوز الثالثة عشرة، لا يحميهم من الأخطار سوى بعض الأوشحة أو الأقنعة المهترئة.
من بين هؤلاء الأطفال، يعمل محمود عاطف (13 عامًا) على ماكينة تقطيع الأحجار، رغم جرحه العميق في حاجبه الأيمن الذي تعرض له أثناء تحميل الحجارة في أحد الأيام.
هذا الجرح هو مجرد واحدة من العديد من الإصابات التي يعاني منها الأطفال في هذا القطاع المميت، حيث يتعاملون مع آلات تقطيع ضخمة تحت ظروف بيئية قاسية للغاية.
وفقاً لدراسة أجرتها مؤسسة وادي النيل لحماية عمال المحاجر، يُقدّر أن الأطفال يشكلون نحو خمس العمالة في هذا القطاع، وهم يتعرضون بشكل دائم للإصابات الناتجة عن العمل في ظروف غير آمنة.
كما يوثق هذا التحقيق استمرار عمل الأطفال في المحاجر في مخالفة واضحة للتشريعات الدولية والمحلية التي تحظر مثل هذه الأعمال في بيئات خطرة.
ورغم أن هذه الأعمال تتنافى مع قانون الطفل المصري واتفاقية حظر أسوأ أشكال عمل الأطفال التي وقّعت عليها مصر، إلا أن الواقع في محاجر المنيا وغيرها من محاجر الصعيد يثبت الفشل التام في تطبيق القوانين.
وفي الوقت الذي تزداد فيه معاناة الأطفال العاملين، يعجز المسؤولون عن توفير أبسط معايير السلامة، ويغيب أي نوع من الرقابة الفاعلة على هذه المحاجر.
فعلى سبيل المثال، لا توجد أدوات سلامة مهنية في هذه المحاجر، كما تفتقر محاجر المنيا إلى التأمينات الصحية والاجتماعية للعاملين، بما في ذلك الأطفال الذين لا يُدرجون ضمن فئة العمالة غير المنتظمة.
حسب نقابة عمال المحاجر، يبلغ عدد العاملين في محاجر المنيا نحو 55 ألف عامل، ومعظمهم من الأطفال الذين ينحدرون من أسر فقيرة، حيث يُجبرون على العمل في هذه المحاجر من أجل تلبية احتياجات أسرهم اليومية.
تجدر الإشارة إلى أن أجر الأطفال في المحاجر يتفاوت حسب أعمارهم ومهامهم، حيث يتقاضى الأطفال من عمر 9 إلى 12 سنة نحو دولارين يوميًا مقابل عملهم، فيما يحصل الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و 14 سنة على ثلاثة دولارات مقابل ساعات عمل تتراوح بين 12 و 14 ساعة يوميًا.
ومع تقدم سن الأطفال، تتزايد أجورهم، لكن هذا لا يعني أن العمل يصبح أقل خطرًا أو مشقة. ففي الواقع، يزداد العمل صعوبة في هذه البيئة الملوثة والمعرضة لخطر الإصابة المستمر.
من بين الأطفال العاملين في المحاجر، يبرز اسم عبد العال (14 عامًا)، الذي بدأ العمل في المحاجر منذ خمس سنوات. يروي عبد العال أنه يعاني من صعوبة في التنفس والنوم بسبب الغبار المتصاعد من الحجارة المقطوعة.
هذا الغبار، الذي يعرفه العمال باسم “غبار السيليكا”، يسبب أمراضًا مزمنة في الجهاز التنفسي، مثل التحجّر الرئوي، نتيجة التعرض المستمر له.
ورغم أن هذه الأمراض تهدد حياتهم على المدى البعيد، فإن الوضع لا يتحسن، بل يستمر في التدهور بسبب غياب أي نوع من أنواع التأمين الصحي أو الرعاية الطبية للمصابين.
تكشف دراسة أجرتها مؤسسة وادي النيل عن أن 96% من الأطفال العاملين في المحاجر يساهمون في دخل أسرهم. ووفقًا للإحصائيات، يبلغ عدد الأطفال المصابين نتيجة العمل في المحاجر حوالي 115 طفلًا.
وتوضح الدراسة أيضًا أن هؤلاء الأطفال في الغالب يتركون التعليم مبكرًا بسبب حاجة أسرهم الماسة للمزيد من الدخل. على سبيل المثال، ترك محمود عاطف المدرسة بعد اجتيازه المرحلة الابتدائية، وكذلك عبد العال الذي اضطر للتخلي عن تعليمه قبل عام من إنهائه المرحلة الابتدائية.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن القانون المصري يسمح للأطفال بالعمل ابتداءً من سن 15 عامًا، لكن هذا القانون لا يراعي الطبيعة الخطرة للعمل في المحاجر.
كما أن اللائحة التنفيذية لقانون الثروة المعدنية، التي تنظم المحاجر، لا تشمل أي من التدابير التي تضمن حماية العمال، سواء كانوا من الأطفال أو البالغين. على الرغم من أن القانون ينص على عقوبات ضئيلة لمرتكبي جريمة استغلال الأطفال، إلا أن هذه العقوبات تعتبر غير كافية، وتقتصر على غرامات مالية بسيطة، مما يسمح لأصحاب المحاجر بالتهرب من المسؤولية القانونية.
إحدى الحالات البارزة التي توضح الإهمال الحكومي في التعامل مع هذا القطاع هي وفاة محمد نادي (18 عامًا)، الذي قضى إثر إصابة تعرض لها أثناء عمله في المحجر.
ورغم أن الحادث وقع في ظروف غير طبيعية، لم يتخذ أي إجراء قانوني ضد صاحب المحجر. فقد تم تسجيل الحادث على أنه حادث طبيعي، ولم يكن هناك أي تحقيق جاد، حيث تم التوصل إلى تسوية بين أسرة المتوفى وصاحب المحجر مقابل دية مالية.
وإلى جانب الحوادث التي تقع في المحاجر، يظهر تقاعس واضح من جانب الحكومة المصرية في مكافحة عمالة الأطفال. على الرغم من وجود “لجنة حماية الطفل” في كل محافظة، إلا أن هذه اللجان تفتقر إلى الإمكانيات والموارد اللازمة لحماية الأطفال العاملين في المحاجر.
كما أن وزارة العمل المصرية ووزارة التضامن الاجتماعي لا تبذلان جهودًا حقيقية للحد من هذه الظاهرة، بل إن بعض المسؤولين في هذه الوزارات يتجاهلون تمامًا الواقع المأساوي في المحاجر.
ما يحدث في محاجر المنيا وغيرها من محاجر الصعيد يعكس فسادًا واضحًا في منظومة العمل الحكومية. فالتشريعات موجودة على الورق، ولكنها لا تطبق في الواقع.
وبدلاً من حماية الأطفال من خطر العمل في بيئات قاسية، تقف الحكومة متفرجة على مأساتهم. ومن ناحية أخرى، يعمل أصحاب المحاجر بحرية تامة دون أي محاسبة، بل ويتعاملون مع الحوادث بشكل غير قانوني ويستمرون في استغلال الأطفال في ظروف لا إنسانية.
لا يمكن التغاضي عن فشل الحكومة في حماية حقوق الأطفال في هذه المناطق، سواء عبر عدم تطبيق القوانين أو عبر غض الطرف عن الانتهاكات المستمرة.
كما أن وزارة العمل والحكومة المحلية في المنيا تتحملان المسؤولية الأكبر في السماح بانتشار هذه الظاهرة التي تمس حقوق الأطفال. وبدلاً من التصدي لهذا الفساد، تواصل الحكومة تقديم الحلول المؤقتة والمبهمة، مما يساهم في استمرار معاناة الأطفال في محاجر المنيا والصعيد.
يتضح أن قضية عمالة الأطفال في محاجر المنيا هي قضية ذات أبعاد كبيرة تتعلق بتقاعس الحكومة والفساد في المؤسسات المعنية بحماية حقوق الأطفال.
هذا الواقع المرير يستدعي ضرورة تدخّل الحكومة بشكل عاجل لتوفير بيئة عمل آمنة للأطفال، وتطبيق القوانين بشكل صارم للحد من هذه الظاهرة المدمرة للأطفال في مصر.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط