في ظل تزايد الغلاء المعيشي واستمرار الأزمات الاقتصادية المتفاقمة في فلسطين، شهدت البلاد موجة من الاستياء الشعبي حول ارتفاع أسعار السلع الأساسية.
إذ لم تعد القرارات الرسمية المتعلقة بتحديد سقف الأسعار فعالة في مواجهة الغلاء المتزايد، مما أثار حالة من الجدل حول مدى فعالية الرقابة الحكومية والممارسات التجارية التي تصفها بعض الأطراف بـ”الفساد الصامت”.
أكد سامر الديك، أحد المواطنين في مدينة غزة، أن الارتفاع الجنوني في أسعار اللحوم والدواجن أصبح يفوق قدرة المواطنين على تحمل أعباء الحياة اليومية.
“كان كيلو لحم الخروف محدداً بـ90 شيكلاً، لكننا نجد المحال التجارية تبيعه بـ120 شيكلاً بكل وقاحة. أين الرقابة؟ ومن المسؤول عن هذا الفساد؟
الناس يعانون، والرواتب بالكاد تغطي احتياجاتنا الأساسية. بات من المستحيل التفكير في شراء اللحم، ناهيك عن باقي المواد الأساسية التي نحتاجها يومياً”.
من جهته، أوضح مازن جابر، بائع في سوق الخليل، أن هناك ضغوطاً كبيرة على التجار نتيجة الارتفاع المستمر في تكاليف الاستيراد والنقل، مضيفاً: “الأسعار المحددة من الحكومة لا تأخذ بعين الاعتبار التكاليف التي نتحملها.
كل شيء ارتفع سعره، من الكهرباء إلى النقل وحتى المواد الخام. نحن نُضطر إلى بيع بأسعار أعلى لنحافظ على استمراريتنا. الوضع في السوق كارثي، ولا يمكننا الاستمرار بهذه الطريقة”.
في المقابل، أشار الخبير الاقتصادي أحمد النبالي إلى أن المشكلة ليست فقط في ارتفاع الأسعار، بل في انعدام السيولة لدى المواطنين بسبب البطالة المتفشية والحصار.
يقول النبالي: “شهدنا انخفاضاً في بعض أسعار السلع مثل الزيت والطحين، لكن ذلك لم ينعكس إيجاباً على حركة السوق.
السبب الأساسي هو أن الناس ببساطة لا يملكون المال لشراء حتى هذه السلع بأسعار مخفضة. النظام الاقتصادي في فلسطين تحت ضغط شديد، ومع غياب فرص العمل وارتفاع معدلات البطالة، أصبح الجوع قريباً من معظم الأسر الفلسطينية”.
بينما عبرت منى عواد، وهي ربة منزل من نابلس، عن استيائها قائلة: “كل يوم أصحى وأتساءل كيف سأتمكن من إطعام أطفالي. الدجاج الذي كان بـ13 شيكلاً أصبح الآن بـ17 شيكلاً.
الأرز والزيت كلهم ارتفعوا، وفي المقابل لم ترتفع الرواتب ولا المعونات. حتى بعض المساعدات التي كانت تصل من الخارج تقلصت بسبب الحرب. نحن نعيش في كابوس مستمر، وكل يوم يمر يكون أسوأ من الذي قبله”.
من جانبه، قال وليد قدورة، مالك متجر في مدينة جنين، إن الحكومة بحاجة إلى تعزيز الرقابة على الأسعار بشكل أكثر فعالية. “الكثير من التجار يستغلون غياب الرقابة لرفع الأسعار بشكل غير مبرر.
نعم، هناك ضغوط اقتصادية، لكن بعض التجار يرفعون الأسعار بمبالغ غير معقولة. نرى كيف أن أسعار اللحوم ارتفعت من 50 إلى 60 شيكلاً، رغم أن الأسعار المفترض أنها محددة بشكل واضح من قبل الحكومة. هناك تلاعب واضح”.
في السياق ذاته، أوضح محمد سعيد، أستاذ الاقتصاد في إحدي الجامعات، أن التضخم الذي تشهده فلسطين هو انعكاس للأزمات السياسية والاقتصادية المعقدة التي تعيشها البلاد منذ سنوات.
“الأرقام لا تكذب. التضخم بلغ مستويات كارثية وصلت إلى 46.7% في عام 2024، وهذه الأرقام تترجم إلى واقع مأساوي على الأرض. البطالة تزيد من الضغوط، والمساعدات الدولية باتت أقل، فيما يزداد الاعتماد على الديون التي قد تضعف الاقتصاد أكثر”.
أوضح فؤاد عابد، صاحب محل مواد غذائية في غزة، أن التجار لا يملكون القدرة على مقاومة ارتفاع التكاليف، مما يجعلهم يرفعون الأسعار دون مراعاة أوضاع المواطنين.
“من الصعب جداً الاستمرار في هذه الظروف. الأسعار التي نشتري بها المواد الأساسية ارتفعت، خاصة بعد الحرب. التكاليف الإضافية تتضمن النقل والتخزين وحتى الرسوم الجمركية التي يتم فرضها بشكل عشوائي. كل ذلك يساهم في رفع الأسعار”.
وفي حديثه عن الوضع القانوني، أشار المحامي إبراهيم النمر إلى أن الفساد في فلسطين أصبح مشكلة مزمنة، تتغلغل في جميع القطاعات.
“الفساد لا يظهر فقط في القطاعات الكبيرة أو المشاريع الضخمة، بل حتى في السوق اليومية. هناك غياب واضح للرقابة، وتهاون في معاقبة التجار الذين يخالفون القوانين. للأسف، الفساد يشمل الجميع، من التجار الصغار إلى الشركات الكبرى، ومن دون تدخل عاجل من السلطات، سيكون الوضع أسوأ بكثير”.
على الجانب الآخر، يرى عز الدين الحاج، ناشط اجتماعي في رام الله، أن الأزمة الحالية هي نتيجة مباشرة لفشل الحكومة في توفير حلول جذرية للمشاكل الاقتصادية المتراكمة.
“ليس فقط ارتفاع الأسعار، بل الانهيار الكامل للثقة بين المواطنين والحكومة. يشعر الناس بأنهم متروكون لمصيرهم، ولا يوجد أي إجراءات ملموسة لوقف هذا النزيف الاقتصادي. إن استمر الوضع على هذا الحال، سنرى انفجاراً اجتماعياً قريباً”.
لكن محمد ياسين، أحد الموظفين الحكوميين، أشار إلى أن هناك جهوداً تبذل من قبل الحكومة لتخفيف الضغط عن المواطنين، وإن كانت غير كافية.
“الحكومة حاولت تحديد سقف للأسعار، لكنها تواجه تحديات كبيرة في تطبيق تلك القرارات على أرض الواقع. هناك حاجة إلى آليات رقابية أكثر صرامة، وتعاون أكبر بين القطاعين العام والخاص لتجنب استغلال الأزمات من قبل بعض الأطراف”.
في حين أكدت نادية خليل، ناشطة حقوقية، أن الفساد المستشري في القطاع التجاري يعد من أهم أسباب هذه الأزمة.
“لا يمكننا إنكار وجود تواطؤ بين بعض التجار والمسؤولين، مما يسمح بتمرير هذه الارتفاعات الكبيرة في الأسعار دون رقابة. لقد تلقينا العديد من الشكاوى من المواطنين حول هذا الموضوع، ونحن نسعى لتوثيق تلك الحالات وتقديمها للجهات المختصة”.
أما المهندس الزراعي زياد الشريف، فيؤكد أن هناك تقصيراً في دعم القطاع الزراعي المحلي، مما يساهم في زيادة الاعتماد على الاستيراد ورفع الأسعار.
“لو تم دعم المزارعين بشكل أفضل، لكنا قادرين على إنتاج الكثير من السلع الأساسية بأسعار أقل. لكن للأسف، يتم تجاهل هذا القطاع بشكل كبير، مما يجعلنا تحت رحمة الأسعار العالمية”.
ويظهر بوضوح أن الغلاء المتزايد في فلسطين لا يتعلق فقط بارتفاع الأسعار بحد ذاته، بل يمتد إلى الفساد والتهاون في تطبيق القوانين.
يتفق المواطنون والمختصون على أن هذه الأزمة مرشحة للتفاقم ما لم يتم اتخاذ إجراءات حازمة وسريعة لتوفير حلول عملية، سواء من خلال تعزيز الرقابة على الأسعار أو دعم القطاعات المنتجة محلياً.
بات من الواضح أن الرفض الجماهيري لهذا الوضع آخذ في التزايد، وأن نقاشاً واسعاً يشعل الشارع الفلسطيني حول الفساد المستشري وتبعاته على حياة المواطن البسيط. إن لم يتم التحرك، فإن تداعيات هذا الغلاء ستكون كارثية على النسيج الاجتماعي والاقتصادي في فلسطين.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط