أخبار عاجلة

يوسف عبداللطيف يكتب: رمضان بين حنين الذكريات وصراع التغيرات

أسترجع كل رمضان ذكريات الطفولة التي تأبى أن تفارقني، تلك اللحظات التي كانت تبدو عابرة لكنها الآن تشكل شرياناً ممتداً عبر الزمن، وأعود إلى ذكرياتي المفعمة بالحنين والشجن والدهشة، كأني أدخل في نفق زمني لا نهاية له، أسافر فيه إلى طفولتي البعيدة. أسترجع مواقف وأيام كانت تبدو في غاية البساطة، لكنها اليوم تعكس مشاعر متناقضة، تجمع بين الفرح والاضطراب.

صيامي الأول في رمضان لم يكن يوماً عادياً؛ شعرت وكأنني أنجزت مهمة خارقة. تعلمت حينها أن القليل من الماء لا يفطر والقليل من الطعام لا يفطر، وعشت أول صيام لي وكأنه إنجاز خارق، تجربة مليئة بالمفاجآت والمشاعر المتناقضة. اكتشفت حينها أن الصيام لم يكن عن الطعام والشراب فقط، بل عن اختبار قدرة الطفل على التحمل.

وأدركت لاحقاً أن الأمر لم يكن سوى تدريب للنفس الصغيرة على التحمل. تلك اللحظات البريئة التي كانت تُغرس فينا دون إدراك حقيقي لمعناها أصبحت الآن نوعاً من الإحساس بالثقل، وكأن الصيام لم يعد فقط عن الامتناع عن الطعام، بل عن العودة إلى ذكريات ترفض أن تتركني بسلام.

بدأت كل رمضان وأنا أجد نفسي غارقاً في حالة من الصدام مع ما كان وما أصبح. تذكرت كيف كانت ليالي رمضان في أسيوط، عاصمة الصعيد، حارة وطويلة، لكننا كنا نصوم كما يصوم الكبار، نعتقد أننا جزء من لعبة الكبار دون أن ندرك أن الطفولة كانت تغيب نهاراً وتعود بعد الإفطار. كنت أركض في الشوارع مع أصدقائي، نتسابق في سباق الأطفال الأبدي بعد كل إفطار، وكأننا نحاول اللحاق بطفولتنا التي فقدناها تحت حر الشمس.

استرجعت تلك الفوانيس الصغيرة التي كانت تضيء ليالي رمضان، وعشت مع أصدقائي تلك اللحظات التي كنا فيها نغني أغاني رمضان الطفولية، وكيف كنا نغني “وحوي يا وحوي” و”حالو يا حالو”، لكن كل هذه الأناشيد والأغاني لم تكن تعبيراً بريئاً كما كنت أظن، بل كانت محاولات لإثبات الوجود والفرح في عالم يزداد تعقيداً. كانت البيوت تُفتح للأطفال بحب وسخاء، والجيران يُقدمون المكسرات والحلوى. والآن، أتساءل، أدركت اليوم أن تلك الأغاني لم تكن فقط للتسلية، بل كانت تعبيراً عن الفرح المشوب بشيء من الحزن الغامض فأين ذهبت تلك البراءة؟ هل استبدلتها الحياة بالتحفظ والخوف؟ هل تغير العالم أم أنني أنا من تغيرت؟

كبرت وأنا أشاهد الشوارع تملأها الفوانيس المعلقة، فتحت ليالي رمضان أمامي نافذة على عالم مختلف .. ولا أستطيع أن أنسى تجمعات الجيران لرؤية هلال رمضان، لكن هذا المشهد كان يحمل في طياته عواصف خفية من المشاعر المختلطة.

فرحة الهلال كانت دائماً تأتي ممزوجة بشيء من الحزن؛ حزن لا أدري مصدره، لكنه كان يرافقني كظل ثقيل. طهي الطعام الجماعي كان درساً في الحياة، في التعايش والتعاون، لكنه كان أيضاً درساً في الانصياع للأدوار المفروضة علينا دون وعي.

ذكريات تحضير الزينة وتعليق الفوانيس كانت لحظات من الفرح الطفولي، لكنها كانت تحمل في أعماقها شعوراً بأن هناك دائماً شيئاً ناقصاً. صلاة التراويح كانت تجمعنا مع الأهل والأصدقاء، لكنها كانت أيضاً محطة للتأمل في كل ما لم نفهمه آنذاك، وكنت أعتقد أن تلك اللحظات تربطني بإيماني، لكنها الآن تربطني بتساؤلاتي. شعرت حينها بأننا كنا نحمل معنا ضجيجاً داخلياً، نبحث عن الهدوء في الصلاة، لكن نجد أنفسنا مشغولين بما خلفه الزمن فينا.

ولم أكن أدرك أن تلك الأنشطة كانت أكثر من مجرد مظاهر احتفالية، بل كانت محاولات للتمسك بما هو بسيط في زمن يزداد تعقيداً، ورأيت الشوادر تُنصب لتحضير الكنافة والقطايف، وشهدت كيف كانت تصنع يدوياً، حين كانت البساطة هي عنوان الحياةً، كانت رمزاً لبساطة الزمن القديم، لكنني اليوم أراها كتمثيل لأشياء تعقَّدت بمرور الزمن.

تجمع العائلة حول مائدة الإفطار كان من أجمل لحظات رمضان. كانت لحظات يُعزف فيها مدفع الإفطار على أوتار الزمن، ليعلن عن بداية أخرى، عن بدء لحظة الهدوء بعد يوم طويل من الصيام. لاحظت مع مرور السنين أن هذه التجمعات بدأت تتضاءل شيئاً فشيئاً، مثقلة بمسؤوليات الحياة، وأن المدفع لم يعد صوت الفرح كما كان، بل صوت يذكرنا بما فقدناه من دفء العائلة.

تابعت برامج الراديو في رمضان، الذي كان نافذة على عالم من الحكايات، ألف ليلة وليلة كانت تملأ الساعات بين الإفطار والسحور، وأتذكر صوت شهرزاد وهي تسرد قصصها لشهريار، وكأنني كنت أنتظر حلول الليل لأعيش في عالم من الخيال، والتي كانت تملأ خيالي قبل النوم.

لكن الآن، الراديو لم يعد حاضراً، تلاشت شهرزاد أمام عاصفة التكنولوجيا والشاشات المضيئة، وأدركت لاحقاً أن تلك الحكايات كانت أكثر من مجرد قصص، كانت جسرًا بين عالمين؛ عالم الماضي الذي كنت أحلم به وعالم الحاضر الذي بات أكثر ضجيجاً.

أعود وأتساءل: أين ذهب كل هذا؟ هل تغير رمضان أم أنني أنا من تغيرت؟ هل كبرت على هذه الذكريات أم أن الزمن رفض أن يظل كما كان؟ رمضان القديم كان مزيجاً من البساطة والعفوية، لكنني اليوم أراه مليئاً بالأسئلة والضجيج الداخلي.

واجهت في النهاية الحقيقة، تلك التي تؤكد أن رمضان لم يتغير. الزمن لم يخن ذكرياته ولم يتغير .. نحن من تغيرنا، نحن الذين فقدنا القدرة على الاستمتاع باللحظات البسيطة، والاستمتاع بالتفاصيل الصغيرة، نحن الذين حوَّلنا الذكريات إلى عبء ثقيل نحمله في قلوبنا وتحولنا إلى أسرى لتوقعاتنا الجديدة.

نسخ الرابط تم نسخ الرابط

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق د. أيمن نور يهنئ الشعب المصري والأمة العربية بحلول شهر رمضان المبارك
التالى دُرّة مساجد مصر وبُنى في رمضان..مسجد عمرو بن العاص علامة فارقة في تاريخ العمارة الإسلامية