في شمال غزة، حيث يمتزج غبار الركام برائحة الأمل، يولد جيل جديد لا يعرف من الحياة سوى الحرب والصمود. أطفال لم تمنحهم الحياة فرصة اكتشاف براءتها، فوجدوا أنفسهم يكبرون بين الدمار، يعيدون بناء أحلامهم فوق أنقاض المنازل، ويتحدّون وحشية الاحتلال التي سرقت منهم الأمان والطفولة. ورغم كل شيء، يجدون طريقًا للحياة وسط الكسور: كرة تتدحرج بين الأنقاض، ضحكة تخترق صمت الدمار، وأيدٍ صغيرة تبني من الحجارة قصورًا وهمية.
محمد: طفل يحلم بالماء قبل الطب
محمد، ابن السبع سنوات، يقف أمام ما تبقى من مدرسته في جباليا، ينظر إلى الجدران التي كانت يومًا تحمل رسوماته الملونة، لكنها اليوم شاهدة على انهيار التعليم تحت قصف الاحتلال. بابتسامة مترددة، يخاطب أمه:
“كنت أريد أن أصبح طبيبًا، لكن الآن أريد فقط ماءً نظيفًا أشربه.”
إن نقص المياه في غزة ليس مجرد أزمة إحصائية تسجلها التقارير الدولية، بل واقع يسرق من الأطفال أبسط حقوقهم. يقضون ساعات طويلة في حمل جالونات المياه الثقيلة، بينما كان ينبغي أن يحملوا كتبهم وأقلامهم. الاحتلال لا يكتفي بالقصف والتشريد، بل يمتد إجرامه إلى كل تفاصيل الحياة، فيجعل حتى الحصول على شربة ماء نضالًا يوميًا.
ليلى: حلم يطير فوق البحر لكنه يصطدم بالحصار
على بعد أمتار من مدرسة محمد، تجلس ليلى، ذات العشر سنوات، بين أنقاض منزلها القديم. عيناها تحكيان قصة لم تُكتب بعد، لكنها محفورة في قلبها: ليالٍ طويلة من القصف، صرخات الأهل، وخوف لم يفارقها حتى مع توقف الطائرات. الصدمات النفسية التي يعانيها أطفال غزة ليست مرئية كالجراح، لكنها أعمق وأكثر إيلامًا.
تقول ليلى بهدوء، وكأنها تخشى أن يسرق الاحتلال حتى أحلامها:
“أحلم أحيانًا بأنني أطير فوق البحر، لكنني أستيقظ وأجد الحصار لا يزال يحيط بي.”
غزة ليست مجرد جغرافيا محاصرة، بل سجن مفتوح، يحكمه الاحتلال بجدرانه العسكرية وعقوباته الجماعية، ليحرم الأطفال حتى من الحق في الحلم.
طفولة بين القنابل… وماذا بعد؟
رغم كل شيء، يتشبث أطفال غزة بالحياة. يلعبون بكرات مصنوعة من القماش البالي، ويرسمون على الجدران المحطمة ما تبقى من خيالهم، لكن الصمود وحده لا يكفي. هذا الجيل، الذي يولد من جديد وسط الحرب، يحتاج إلى أكثر من تعاطف العالم. إنه بحاجة إلى موقف حقيقي يوقف النزيف المستمر، ويضع حدًا لوحشية الاحتلال الذي يواصل انتهاك حقوقهم.
تحذر منظمات الإغاثة من أن غياب الدعم السريع لن يترك فقط ندوبًا في نفوسهم، بل قد يسلبهم مستقبلهم بالكامل، ويحكم عليهم بحياة لا يُفترض أن يعيشها أي طفل. ليس المطلوب اليوم بيانات إدانة باردة، بل تحرك دولي فوري يعيد لهم الماء النظيف، والمدارس الآمنة، والمساحات التي يمكن أن يلعبوا فيها دون خوف من قذيفة طائشة أو قصف مفاجئ.
الأمل… حتى في السوق المغبر
في سوق الفلاحين، حيث يحاول الكبار بيع ما تبقى من محاصيلهم، يركض الأطفال حاملين سلالًا صغيرة، يساعدون، يضحكون، يثبتون للعالم أن الحياة تنبض حتى في أحلك الظروف. لكنهم ليسوا مجرد رموز للصمود تثير إعجاب المتابعين عن بُعد؛ إنهم بشر يستحقون طفولة حقيقية، وحياة تُعاش بكرامة، لا مجرد نجاة يومية من حرب مستمرة.
العالم الذي يشاهد غزة اليوم مدين لهؤلاء الأطفال بأكثر من التصفيق على شجاعتهم. إنه مدين لهم بحقهم في العيش، بحقهم في مستقبل لا تلوثه دبابات الاحتلال، وبحقهم في أن يكونوا أطفالًا، لا مشاريع ضحايا مؤجلة.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط