أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مؤتمر صحافي عقد بعد نحو أسبوعين من دخوله البيت الأبيض، وفي حضور بنيامين نتنياهو، تصريحات أشار فيها إلى نيّته في السيطرة على قطاع غزة بعد إخلائه من سكانه، وطالب مصر والأردن بتخصيص أراضٍ لإعادة توطين المهجّرين الفلسطينيين، مبرّراً مقترحاته المفاجئة وطلباته غير المشروعة بأنّ قطاع غزة لم يعد صالحاً للحياة بعد كلّ ما حلّ به من دمار وما شهدته ساحته من حروب متتالية على مدى السنوات الماضية.
أكّد ترامب أنّ حرصه على تحقيق السلام في منطقة الشرق الأوسط هو ما دفعه للتفكير في أن تتولّى الولايات المتحدة بنفسها الإشراف على إعادة إعمار القطاع بطريقة تضمن تحويل هذه إلى “ريفييرا” ساحرة يمكن لكلّ البشر من مختلف أنحاء العالم أن يستمتعوا بشواطئها الجميلة وبمياهها الدافئة، بدلاً من أن تظلّ مسرحاً لصراع دائم يستعصي على الحلّ.
أثارت هذه التصريحات المذهلة ردود أفعال متناقضة على الساحتين الإسرائيلية والعربية. فعلى الساحة الإسرائيلية سارع كلّ من نتنياهو والجناح الأكثر تطرّفاً في حكومته إلى الاحتفاء بها والتحمّس لها، كما كان متوقّعاً.
فهي، من ناحية، تفتح أمام نتنياهو طريقاً لإنقاذ حكومته المهدّدة بالانهيار وللمحافظة على تماسك ائتلافه المأزوم الذي يوشك عقده على الانفراط. وهي، من ناحية أخرى، تضخّ دماء جديدة في شرايين الاستراتيجية التي يتبنّاها الجناح الأكثر تطرّفاً والتي تهدف إلى ضمّ الضفة وإعادة احتلال القطاع وتصفية القضية الفلسطينية نهائياً.
أما على الساحة العربية فقد تسبّبت هذه التصريحات في صدمة شديدة على المستويين الرسمي والشعبي، حيث قوبلت برفض قاطع وأثارت سلسلة من ردود الأفعال التي أفضت إلى عقد اجتماع عاجل لوزراء خارجية مصر والسعودية والأردن والإمارات وقطر، أسفر عن اتفاق على عقد قمة عربية مصغّرة تقتصر على الدول الخمس وتمهّد الطريق لانعقاد قمة عربية موسّعة في نهاية الشهر الجاري، كما تمّت الموافقة خلال الاجتماع الوزاري على أن تتولّى مصر إعداد خطة مفصّلة لإعمار غزة من دون تهجير سكانها.
تتوافر مؤشرات عديدة توحي بأنّ مناقشة واعتماد الخطة المصرية البديلة سيكون هو الموضوع الرئيسي المدرج على جدول أعمال القمم العربية المقبلة، المصغّرة منها والموسّعة على حدّ سواء. فربما يكون من السابق لأوانه الجزم بما إذا كان في مقدور أيّ من هذه القمم تبنّي استراتيجية عربية قادرة بالفعل على الحيلولة دون تصفية القضية الفلسطينية نهائياً، وهو الهدف الحقيقي الكامن وراء خطة التهجير التي يقترحها ترامب.
فمن الناحية الفنية، لا توجد أيّ صعوبة في الواقع تحول دون رسم خطة متكاملة لإعادة إعمار قطاع غزة المدمّر من دون اللجوء إلى تهجير كلّي أو جزئي أو حتى مؤقت لسكانه. فالعالم العربي يعجّ بالخبرات الهندسية والمعمارية والعمرانية، وأيضاً بالشركات والمؤسسات رفيعة المستوى الكفيلة بوضع وتنفيذ مثل هذه الخطة بكفاءة واقتدار.
غير أنّ المعضلة الحقيقية تكمن في الأبعاد السياسية للقضية وليس في أبعادها الفنية، أي في إصرار الحكومة الإسرائيلية، المدعوم أميركياً، على رفض أيّ تسوية عادلة للقضية الفلسطينية وعلى استغلال الظروف والأوضاع الراهنة لتصفية هذه القضية نهائياً، عبر الضمّ والتهجير.
فعلى مدى الشهور الخمسة عشر التي استغرقتها حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها “إسرائيل” على الشعب الفلسطيني منذ “طوفان الأقصى”، لم يستطع العالم العربي أن يفعل شيئاً لوقف هذه الحرب الوحشيّة، أو حتى لإجبار “إسرائيل” على السماح بإدخال ما يكفي من معونات إنسانية لإنقاذ الشعب الفلسطيني ممّا يتعرّض له من عمليات التجويع والتدمير والتشريد التي لا نظير لها في العصر الحديث.
ولولا ما أظهرته المقاومة الفلسطينية المسلّحة من بسالة منقطعة النظير في ميدان القتال، وما أظهره الشعب الفلسطيني من صمود أسطوري، جسّده إصراره العنيد على البقاء في أرضه والتمسّك بها ورفض الهجرة والتهجير مهما تكبّد من تضحيات، لما أمكن التوصّل إلى الاتفاق الحالي لوقف إطلاق النار، والذي تمّ التوصّل إليه قبل يوم واحد من انتهاء ولاية بايدن.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط