كشف تقرير صادر عن الجهاز المركزي للمحاسبات عن فضائح وفساد مالي وإداري مستشرٍ داخل الهيئة القومية للبريد تحت إشراف وزارة الاتصالات، ما يعكس مستوى غير مسبوق من الإهمال والتقاعس الحكومي في إدارة واحدة من أهم المؤسسات المالية والخدمية في البلاد.
التقرير الذي استند إلى القوائم المالية للسنة المالية المنتهية، بيّن كيف أصبحت الهيئة مسرحًا للاختلاسات وسوء الإدارة الذي أثر سلبًا على الميزانية العامة والمواطنين على حد سواء، بينما تلتزم الحكومة المصرية الصمت والتجاهل، مما يزيد من عمق الفساد والتدهور.
التقرير أظهر بوضوح أن الهيئة القومية للبريد حققت صافي ربح قدره 3.826 مليار جنيه خلال السنة المالية المنتهية، وبلغ رصيد الأرباح المرحلة 10.831 مليار جنيه. ولكن هذه الأرقام، التي قد تبدو في ظاهرها إيجابية، هي في الحقيقة مجرد ستار يخفي وراءه مشكلات مالية ضخمة تم تجاهلها بفضل الفساد المستشري والتلاعب في الأرقام المالية.
فالهيئة التي من المفترض أن تدير مواردها بشكل مستدام تعاني من أزمة مالية خانقة نتيجة للسياسات الحكومية الفاشلة وإدارة الهيئة غير الكفوءة.
وقد أشار التقرير إلى أن الهيئة زادت العائدات من الاستثمار في سندات وأذون الخزانة إلى 9.772 مليار جنيه، ما أثار الشكوك حول استدامة هذه الأرباح.
فالاعتماد المبالغ فيه على عائدات الأذون والسندات بدلًا من تحسين الأداء التشغيلي يعكس فشل الهيئة والحكومة في تبني استراتيجيات طويلة الأجل للحفاظ على استقرار المؤسسة.
تلك الأرباح غير المستدامة هي نتيجة مباشرة للفساد الذي أصبح ينخر في جميع مفاصل الهيئة، وبمباركة وزارة الاتصالات والحكومة المصرية.
زيادة العوائد من المبالغ المودعة لدى بنك الاستثمار القومي بمقدار 403 مليون جنيه لتصل إلى 15.264 مليار جنيه لم تكن سوى خطوة أخرى تؤكد حجم الأزمة، حيث استمرت الهيئة في تحويل هذه العوائد إلى رسملة دون سداد فعلي، مما يعزز المخاوف بشأن قدرة الهيئة على الوفاء بالتزاماتها النقدية في المستقبل.
هذا التلاعب في الأرقام المالية وغياب الشفافية هما من أكبر مظاهر الفساد، وهو أمر تتحمل مسؤوليته المباشرة وزارة الاتصالات التي لم تحرك ساكنًا إزاء هذه الانتهاكات المالية الصارخة.
ومن ضمن السياسات الكارثية الأخرى التي اتبعتها الهيئة، قامت برفع الرسوم المفروضة على الخدمات البريدية والمالية، ما أدى إلى زيادة إيرادات الرسوم إلى 1.365 مليار جنيه، بزيادة قدرها 130% عن العام السابق.
هذه الزيادة الكبيرة جاءت على حساب المواطنين الذين يعانون بالفعل من أوضاع اقتصادية صعبة.
بدلاً من تحسين الخدمات أو إعادة الاستثمار في تطويرها، استغلت الهيئة هذه الزيادة لتغطية تكاليف إدارتها السيئة ورواتب ومكافآت المسؤولين الفاسدين، في وقت تتجاهل فيه الحكومة المصرية بشكل كامل شكاوى المواطنين الذين أصبحوا ضحية لهذه السياسات القاسية.
أكثر من ذلك، كشف التقرير أن الهيئة لم تلتزم بتحصيل ضريبة القيمة المضافة على الخدمات المالية منذ عام 2016، وهو ما يهددها بتحمل أعباء ضريبية ضخمة في المستقبل.
هذا الفشل في الالتزام بالقوانين لا يعكس فقط إهمال الهيئة بل أيضًا تواطؤ وزارة الاتصالات والحكومة المصرية في التغاضي عن هذه الانتهاكات التي تعزز من تفاقم الأزمة المالية.
إن عدم تنفيذ القوانين المالية المنظمة من قبل الهيئة يعكس مدى الفساد الذي استشرى في المؤسسة دون رقيب أو حسيب، وكأن القانون لا ينطبق على المؤسسات الحكومية التي من المفترض أن تكون هي القدوة في تطبيقه.
أما المصروفات والأجور فقد شهدت هي الأخرى ارتفاعًا هائلًا وصل إلى 7.541 مليار جنيه بزيادة قدرها 1.4 مليار جنيه، وهو ما يشير إلى إدارة مالية كارثية داخل الهيئة. لقد قامت الهيئة بصرف مبالغ مالية ضخمة من الأرباح المرحلة لتغطية فروق مالية للحوافز والمكافآت عن الفترة السابقة، مما أدى إلى تراجع الأرباح المرحلة بمقدار 747 مليون جنيه.
هذه الإجراءات هي خير دليل على استنزاف الموارد العامة دون خطة واضحة أو إدارة رشيدة، وهو فساد واضح تتحمل مسؤوليته الحكومة المصرية ووزارة الاتصالات التي سمحت باستمرار هذه الفوضى.
وفي فضيحة أخرى، كشف التقرير عن قصور في الرقابة الداخلية للهيئة حيث لم تتم مطابقة الأصول الثابتة مع الجرد الفعلي، وظهرت اختلافات في أرصدة الأصول في بعض المناطق، وهو ما يعد دليلاً قاطعاً على وجود اختلاسات وتلاعب في الممتلكات العامة.
هذا الانفلات في إدارة الأصول العامة يظهر مدى ضعف الرقابة الحكومية، ويضع وزارة الاتصالات والحكومة المصرية في موضع الاتهام المباشر بالتقاعس عن القيام بواجباتها الرقابية.
وإضافة إلى ذلك، أظهر التقرير أن الهيئة القومية للبريد تعاني من تقادم شديد في نظمها المالية، وعدم وجود ترابط بينها، مما أدى إلى زيادة حالات الاختلاس التي بلغت 139 مليون جنيه.
الهيئة لم تلتزم بقرارات التحول إلى نظم الدفع الإلكتروني وإدارة المعلومات المالية الحكومية، واستمرت في استخدام النظم التقليدية التي تعيق الشفافية وتساعد على انتشار الفساد المالي والإداري.
كل هذا يحدث بينما تظل وزارة الاتصالات والحكومة المصرية صامتة ومتقاعسة عن إصلاح هذا النظام الذي يعاني من أعطاب خطيرة.
التقرير الرقابي كشف أيضًا عن صرف مكافآت ورواتب تجاوزت الحدود القانونية، وهو ما يشير بوضوح إلى فساد مستشري داخل الهيئة القومية للبريد تحت مظلة وزارة الاتصالات، ودون أي رقابة أو محاسبة من الحكومة المصرية.
المسؤولون في الهيئة استغلوا مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية على حساب الأموال العامة، وهو أمر يجب أن يدفع الحكومة إلى اتخاذ إجراءات فورية لوقف هذا النزيف المالي، ولكن يبدو أن هناك تواطؤًا واضحًا في الصمت على هذه الجرائم المالية.
وفي تطور يفضح التدهور المستمر في أداء الهيئة، كشف التقرير أن الهيئة سجلت تراجعا كبيرا في صافي أرباحها للعام المالي 2024/2025، حيث بلغ صافي الربح 76.64 مليار جنيه بتراجع حاد عن العام المالي السابق. التكاليف والمصروفات بلغت 38.19 مليار جنيه، بينما قدرت الإيرادات بنحو 38.84 مليار جنيه، وهو ما يعكس انخفاضًا مقلقًا في هوامش الربح.
هذه الأرقام توضح بشكل لا يقبل الشك أن الهيئة القومية للبريد تعاني من أزمة مالية كبيرة بسبب السياسات المالية والإدارية الفاشلة التي انتهجتها الحكومة المصرية ووزارة الاتصالات.
بدلًا من البناء على النجاحات المالية السابقة، أظهرت السياسات الحكومية الفاشلة والفساد المستشري في الهيئة القومية للبريد كيف أدى سوء الإدارة والقصور الرقابي إلى تدهور الأداء المالي بشكل ملحوظ.
الهيئة القومية للبريد والحكومة المصرية مطالبان اليوم بإجراء إصلاحات جذرية وتحديث نظام التشغيل المالي لضمان الشفافية والكفاءة المالية، بعيدًا عن الحلول المؤقتة التي قد تؤدي إلى مزيد من الأزمات المالية في المستقبل.
تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات، الذي فضح هذه الانتهاكات، يحمّل وزارة الاتصالات والحكومة المصرية مسؤولية مباشرة عن هذه الانحرافات.
من الواضح أن الهيئة القومية للبريد أصبحت ضحية لسياسات غير رشيدة وفاسدة، ومع استمرار التقاعس في اتخاذ الإجراءات اللازمة للإصلاح، فإن مستقبل الهيئة والحكومة المصرية برمتهما على المحك.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط