شهدت أزمة “العدادات الكودية” في مصر تحوّلًا كبيرًا، حيث أثار قرار إلغاء نظام “الممارسة” واستبداله بنظام العداد الكودي موجة من الجدل والمشاكل الجديدة.
بدأت الحكومة هذه الخطوة بهدف تنظيم التوصيلات الكهربائية غير القانونية وتقليل سرقة التيار الكهربائي. قرار رئيس الشركة القابضة لكهرباء مصر، المهندس جابر دسوقي، بتعميم العداد الكودي بدا في البداية حلاً واعداً لمشكلة قديمة، إلا أن التنفيذ الفعلي حمل معه أزمات أكبر.
فرضت الحكومة تركيب العداد الكودي كبديل لنظام “الممارسة”، مما ألزم المواطنين الذين كانوا يحصلون على الكهرباء بطرق غير قانونية بتركيب عدادات مرتبطة ببطاقات الرقم القومي دون الحاجة إلى إثبات ملكية العقار. كان الهدف من هذا القرار هو تحقيق العدالة بين المستهلكين كافة، لكن ما إن بدأ تطبيقه حتى ظهرت عقبات مالية جديدة، أبرزها “المقايسة”.
تفرض شركات توزيع الكهرباء على المواطنين دفع تكاليف المقايسة لتركيب العداد الكودي، وهي مبالغ قد تتجاوز عشرات الآلاف من الجنيهات، بل قد تصل في بعض الحالات إلى مئات الآلاف، حسب طبيعة العقار وقوته الكهربائية. بدلاً من أن يكون العداد الكودي وسيلة ميسرة لتقنين أوضاع المواطنين المخالفين، أصبحت المقايسة عقبة مالية ضخمة، خاصة للفئات محدودة الدخل.
تجاوزت تكاليف المقايسة في بعض الحالات تكلفة بناء العقار نفسه، ما جعل المواطنين غير قادرين على سدادها. يجد المواطن نفسه أمام خيارين: إما دفع هذه المبالغ الباهظة لتركيب العداد الكودي أو مواجهة غرامات ضخمة تفرضها شركات التوزيع باعتباره يحصل على الكهرباء بطرق غير قانونية، ما يُعرضه أيضاً للمساءلة القانونية بتهمة سرقة التيار. وبدلًا من تحقيق العدالة، يتحول العداد الكودي إلى عبء جديد على المواطنين، دون حلول واقعية لتخفيف الأعباء.
منعت اللوائح الحالية أصحاب العدادات الكودية من تركيب محطات شمسية لتوليد الكهرباء، مما شكل عقبة جديدة أمام المواطنين. لا يستطيع المواطن الذي قام بتركيب عداد كودي الاستفادة من الطاقة الشمسية إلا بعد الحصول على عداد قانوني دائم، وهو ما يعنى أن من يدفع تكلفة المقايسة لا يمكنه الاستفادة من مشاريع الطاقة المتجددة. هذا القرار يناقض توجهات الدولة نحو تشجيع استخدام الطاقة المتجددة، ويظهر عدم تكامل السياسات المعمول بها في قطاع الكهرباء.
برزت مشكلة أخرى، وهي غياب التخطيط المتكامل والتنسيق بين الجهات المختلفة، وهو ما أدى إلى تفاقم الأزمات بدلاً من حلها. كان يُفترض أن يكون العداد الكودي وسيلة لحل مشكلة التوصيلات غير القانونية، لكن سوء التنفيذ حوّله إلى بوابة جديدة للمشكلات المالية والقانونية، ما يثقل كاهل المواطنين بأعباء إضافية في ظل أوضاع اقتصادية صعبة.
ما يحدث اليوم هو امتداد لنهج إداري قديم يعتمد على حل الأعراض بدلاً من معالجة جذر المشكلة. يظهر في كل مرة يتم اتخاذ قرار لمعالجة مشكلة، يتم خلق مشكلة أخرى من وراء الكواليس. يتكرر هذا النمط في عدة قرارات، مما يزيد من تعقيد المشكلات بدلاً من حلها.
جاء قرار تحويل المواطنين لنظام العدادات الكودية دون مراعاة الظروف الاجتماعية والاقتصادية لغالبية المشتركين، مما أثقل كاهل المواطنين بديون وغرامات مالية ضخمة. هذا القرار، الذي كان يفترض أن يقضي على فوضى التوصيلات غير القانونية، تحول إلى فخ جديد للمواطنين، يجرهم إلى مزيد من الأزمات.
تحتاج الحكومة، إذا كانت جادة في حل أزمة التوصيلات غير القانونية وسرقة التيار الكهربائي، إلى اتخاذ إجراءات أكثر واقعية وشمولية تراعي ظروف المواطنين المالية. يجب أن تلغى المقايسة أو تُخفض بشكل كبير لتصبح في متناول الفئات المحدودة الدخل. ويجب أيضاً إتاحة الفرصة للمشتركين بنظام العدادات الكودية لتركيب محطات شمسية لتوليد الطاقة دون الحاجة إلى الانتظار للحصول على عداد دائم.
علاوة على ذلك، ينبغي إعادة النظر في اللوائح المنظمة لتركيب العدادات، بحيث يتم تبسيط الإجراءات وتقليل التكاليف بما يضمن تحقيق العدالة لجميع المواطنين. يجب مراجعة حسابات المقايسات لضمان شفافيتها وعدالتها، فالمواطنون لا يستطيعون تحمل المزيد من الأعباء المالية في ظل الظروف الاقتصادية الحالية.
ما حدث مع أزمة العداد الكودي يظهر بوضوح أن الحل الذي كان يُفترض أن يعالج مشكلة التوصيلات غير القانونية وسرقة التيار قد تحول إلى عبء إضافي بسبب الشروط المعقدة التي وضعتها شركات التوزيع بناء على تعليمات رئيس الشركة القابضة لكهرباء مصر. هذه الشروط جعلت الحل غير مجدٍ وأبعدت إمكانية تحقيق استدامة في قطاع الكهرباء.
القرار الذي كان من المفترض أن يُنهي فوضى التوصيلات المخالفة أصبح بمثابة بوابة جديدة لمشكلات مالية وقانونية يواجهها المواطنون، بدلاً من تحقيق العدالة في الحصول على الكهرباء بشكل قانوني وميسر. ما نراه اليوم هو استبدال مشكلة قديمة بمشاكل جديدة متعددة، دون النظر إلى التبعات الاجتماعية والاقتصادية على المواطنين.
التحدي الحقيقي يكمن في تحقيق توازن بين الالتزام بالقانون وتخفيف الأعباء عن المواطنين. يجب أن يتم حل الأزمة بشكل شامل وعادل، بدلاً من خلق مزيد من التعقيدات التي تحرم المشتركين من حقوقهم الأساسية في الحصول على الكهرباء. يحتاج المواطنون إلى منظومة كهرباء أكثر عدالة ومرونة تعكس احتياجاتهم وتحدياتهم، بعيداً عن الفخاخ المالية التي تُثقل كاهلهم دون حلول عملية.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط