يكشف التحقيق عن كارثة بيئية تهدد حياة الآلاف من المصريين، حيث تتجاوز انبعاثات مصنع الإسكندرية لإنتاج الحراريات التابع لشركة الإسكندرية للحراريات الحدود القانونية المسموح بها، بحسب تقرير وزارة البيئة المصرية لعام 2024.
يتسبب المصنع في تلوث الهواء بشكل يهدد صحة سكان المناطق المحيطة به، ويُعرضهم لخطر الموت البطيء.
يُعاني سكان “الحضرة الجديدة” بمحافظة الإسكندرية، وفي مقدمتهم محمد جمال، من التلوث المستمر الذي يسهم فيه مصنع الإسكندرية للحراريات، الذي يتوسط كتلة سكانية ضخمة.
يعمل جمال في أحد محال البقالة المقابلة مباشرةً لسور المصنع، ويصف مشهد إزالة الأتربة المتراكمة على بضاعته طوال اليوم، مشيرًا إلى أن هذا التلوث يلاحقه باستمرار في حياته اليومية.
يقول جمال: “ما كنتش أقدر أشتري شقة في مكان تاني أفضل”، معبرًا عن الظروف الاقتصادية الصعبة التي دفعته للاستقرار في هذه المنطقة الملوثة.
يُعد مصنع الإسكندرية لإنتاج الحراريات، الذي تأسس عام 1938 ويقع في منطقة “النزهة، البر القبلي”، تابعًا للشركة القابضة للصناعات المعدنية، التي تمتلك 99.80% من أسهمه.
يتسبب المصنع في تلوث خطير، لا سيما أن العديد من سكان المنطقة يعانون من أمراض صدرية مزمنة. من بينهم، ماجدة إبراهيم الدمراني، البالغة من العمر 47 عامًا، التي تعيش في المنطقة منذ زواجها في سن الـ17.
تتلقى ماجدة علاجًا مستمرًا لحساسية الصدر منذ أكثر من 6 سنوات، وهو ما أكد الأطباء أنه نتيجة تعرضها المستمر للأتربة الملوثة. تقول ماجدة: “الأتربة بتدخل كل ركن في البيت، حتى لو قفلت النوافذ”، مشيرة إلى أن مرضها أصبح يؤثر أيضًا على ابنتها وشقيقة زوجها وأبناء شقيق زوجها.
يُظهر التقرير الأخير الصادر عن وزارة البيئة لعام 2024، والذي يعتمد على الشبكة القومية لرصد ملوثات الهواء المحيط، أن محطات رصد التلوث في محافظة الإسكندرية قد سجلت مستويات خطيرة من التلوث في الهواء.
رصدت محطتا برج العرب وبشائر الخير، القريبتان من مصنع الإسكندرية للحراريات، تجاوزات في تركيزات الجسيمات الصلبة ذات القطر الأقل من 10 ميكرومترات “PM10″، والتي فاقت الحدود المسموحة. كما رصدت محطة بشائر الخير مستوى تركيز الجسيمات الأقل من 2.5 ميكرومتر، حيث وصل إلى 41 ميكروجرامًا لكل متر مكعب، قارب الحد الأعلى المسموح به قانونًا “50 ميكروجرامًا لكل متر مكعب”. هذا التلوث الشديد يعرض حياة السكان في المناطق المحيطة بالمصنع لخطر جدي.
يُعاني محمد رمضان، المقيم في الطابق السادس من بناية مقابلة للمصنع، من الأعباء الصحية الناتجة عن التلوث. يعيش محمد مع أبنائه الأربعة، الذين يتنقلون بين الأطباء بسبب مشاكل صحية متكررة، ما يُثقل كاهله ماليًا.
يتذكر محمد مشهد وفاة والدته المتأثرة بأمراض صدرية بسبب التلوث، وهي الحادثة التي ظلّت محفورة في ذهنه. يعبّر محمد عن خوفه من أن يتكرر نفس المصير مع أحد أطفاله.
في الوقت ذاته، تكشف ماجدة الدمراني عن وفاة ابنة جارتها بسبب أزمة صدرية أودت بحياتها، ما دفع الأهالي لتقديم العديد من الشكاوى للمسؤولين، مطالبين بنقل المصنع من المنطقة. لكن هذه المطالب لم تلقَ أي استجابة من الجهات المعنية، الأمر الذي زاد من معاناتهم المستمرة.
تقع منطقتا “الحضرة” و”الإبراهيمية”، اللتين تعتبران الأكثر تضررًا من المصنع، ضمن نطاق قسم باب شرق في حي وسط، الذي يُعد من أكثر الأحياء تضررًا من التلوث.
يشير المجلس القومي للسكان إلى أن حي وسط يشهد أعلى معدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة في محافظة الإسكندرية، ويحل ثانيًا في معدلات وفيات الرضع بعد حي الجمرك.
وفقًا للبيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، سجّل حي وسط أعلى معدلات وفيات بشكل عام على مستوى المحافظة، بينما سجل قسم باب شرق أعلى معدلات الوفاة في هذا الحي. ومن بين الأسباب الرئيسية للوفاة، تأتي أمراض الجهاز التنفسي، التي تسببت في وفاة العديد من السكان.
وفي السياق نفسه، يؤكد أحد المسؤولين في مصنع الإسكندرية للحراريات أن العمال في المصنع يعانون بشكل مستمر من تعرضهم للأتربة الناعمة، ما يؤدي إلى إصابتهم بمرض التحجر الرئوي، وهو مرض مزمن يُنهي مسيرتهم المهنية.
يشير المسؤول إلى أن الإصابة بالتحجر الرئوي تصيب العاملين في المصنع كافة، بما في ذلك موظفي الأعمال المكتبية.
ورغم الجهود التي بذلها جهاز شؤون البيئة بمحافظة الإسكندرية، والتي شملت عدة جولات تفتيشية على المصنع، إلا أن هذه الجهود لم تسفر عن نتائج ملموسة.
يؤكد أحد المسؤولين في الجهاز أن المصنع يتعرض لعدة مخالفات بيئية، لكن الإجراءات القانونية المتخذة لم تؤدِ إلى أي تغيير، في الوقت الذي تواصل فيه هيئة التنمية الصناعية تجاهل مسؤولياتها رغم أنها الجهة الوحيدة القادرة قانونيًا على إغلاق المنشآت المخالفة.
بينما يستمر التلوث في تهديد حياة سكان المنطقة، يحاول المواطنون حماية أنفسهم من الانبعاثات السامة عبر إغلاق نوافذ وأبواب منازلهم، لكن ذلك لم يعد كافيًا.
أصبحت حياتهم اليومية مليئة بالضجيج والأتربة التي تغزو منازلهم، مما جعلهم يواجهون واقعًا صعبًا مليئًا بالتهديدات الصحية.
ومع استمرار تعنت الجهات المسؤولة، يبقى حلمهم في الحصول على بيئة نظيفة وآمنة بعيد المنال، ويستمرون في مواجهة سموم المصنع التي تقتلهم ببطء.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط