قررت وزارة الصحة والسكان في خطوة غير مسبوقة وغير مبررة، وقف صرف الوجبات الغذائية للفرق الطبية في المستشفيات الحكومية العاملة بنظام تجميع ساعات العمل الأسبوعية، وذلك بحجة ترشيد الإنفاق.
القرار الذي صدر قبل يومين من مديرية الشئون الصحية بالمنوفية وجه لجميع المستشفيات التابعة لها، يمنع طلب صرف وجبات غذائية للعاملين في نوبات الـ 12 ساعة، سواء صباحًا أو مساءً، وكذلك للعاملين بنظام تجميع ساعات العمل في نوبات 24 أو 36 ساعة. ما كشف عن نية تعميم هذا القرار على جميع مديريات الصحة في مختلف أنحاء الجمهورية.
تقتير في أبسط الحقوق الأساسية
القرار الجديد يلزم العاملين بنظام النوباتجيات المجمعة بتقديم طلب يتعهدون فيه بعدم طلب صرف وجبة غذائية أثناء أي نوبة طويلة، بحجة ترشيد الاستهلاك في المستشفيات الحكومية.
هذا الإجراء ليس الأول من نوعه، فقد تم سابقًا مناقشة قضية حرمان الأطباء من وجباتهم الغذائية من قِبل النقابة العامة للأطباء في مارس 2024 بعد أن أقدمت بعض المستشفيات على اتخاذ قرارات مشابهة.
وقد طالبت النقابة وقتها وزارة الصحة بضرورة الالتزام بالقرار الوزاري رقم 783 لسنة 2016، الذي ينظم صرف وجبات غذائية للأطباء العاملين 12 ساعة متواصلة، بغض النظر عن نظام الساعات الذي يعتمدونه.
النقابة، التي لا تزال تدافع بشدة عن حق الأطباء في الحصول على وجباتهم أثناء العمل الطويل، ترى في هذه الوجبات جزءًا هامشيًا يعوض بشكل ضئيل الرواتب الهزيلة التي يحصل عليها الأطباء العاملون في المستشفيات الحكومية.
ومن الواضح أن الوزارة بدلًا من تحسين الأوضاع المادية للأطباء، اختارت التقليل من التعويضات الرمزية التي كان الأطباء يحصلون عليها مثل الوجبات.
تطفيش الأطباء وتحطيم النظام الصحي
إن الخطوة الجديدة تعد تصعيدًا غير مبرر سيؤدي إلى المزيد من تطفيش الأطباء من العمل الحكومي، حيث أن هؤلاء الأطباء يتحملون بالفعل أوضاعًا مالية ومعيشية صعبة.
القرار سيزيد من تفاقم أزمة هجرة الأطباء، الذين يبحثون عن فرص عمل أفضل في الخارج، ما يتسبب في نزيف مستمر للكوادر الطبية لا يمكن تعويضه.
إضافة إلى ذلك، فإن الأطباء العاملين بنظام النوبات الطويلة يضطرون لترك العمل أو المستشفى للبحث عن طعام من الخارج، وهو أمر غير منطقي ولا يمكن تحمله خاصة في ظل ارتفاع أسعار الغذاء.
النقابة العامة للأطباء كانت واضحة في موقفها، حيث أكدت أنه من غير المقبول أن يُحرم الأطباء من وجباتهم، وخاصة أنهم يؤدون نوبات عمل مرهقة تتراوح بين 12 و36 ساعة متواصلة.
وفي ظل غياب أي تعويض مادي مناسب لهذه الأعباء، تصبح الوجبات حقًا بديهيًا لا يجوز سلبه. إلا أن الحكومة بدلًا من البحث عن حلول لتحسين أوضاع العاملين في القطاع الصحي، تستمر في إصدار قرارات تزيد من الضغوط على الأطباء، مما يعجل بفرارهم من الخدمة في مصر والهجرة إلى الخارج.
انهيار المنظومة الصحية: الكارثة القادمة
التقارير تشير إلى أن عدد الأطباء في مصر يشهد تراجعًا حادًا، حيث بلغ تعداد الأطباء العاملين في القطاعين العام والخاص عام 2022 نحو 212 ألف طبيب، منهم أكثر من 120 ألف يعملون في الخارج، بما يعادل 67% من خريجي كليات الطب.
ومع ارتفاع معدل الهجرة السنوي إلى 7 آلاف طبيب، تشهد مصر نزيفًا حادًا في كوادرها الطبية، ما أدى إلى انخفاض نسبة الأطباء لكل مواطن إلى طبيب واحد لكل 1162 شخص، في حين أن المعدل العالمي هو طبيب لكل 434 شخص.
السياسات الحكومية العشوائية لم تؤد إلا إلى تفاقم هذه الأزمة، وسط ظروف اقتصادية ومعيشية متدهورة، حيث يعاني القطاع الصحي من انهيار مستمر في جودة الخدمات والرواتب.
وبسبب هذه السياسات الكارثية، أصبحت مصر الدولة الوحيدة في العالم التي يموت فيها الأطباء سنويًا من إجهاد العمل، وتأتي الحكومة الآن لتزيد عليهم حرمانهم من وجباتهم الغذائية.
إهدار المليارات على القصور وتقتير على الأطباء
بينما تتذرع الحكومة بترشيد الإنفاق من خلال حرمان الأطباء من وجباتهم، فإن الحقائق الاقتصادية تُظهر تباينًا صارخًا في أولويات الإنفاق.
تكاليف الوجبات الغذائية في القطاع الصحي أقل من 500 مليون جنيه سنويًا، ومع ذلك، تجد الحكومة أنها قادرة على إنفاق أكثر من 10 مليارات جنيه على قصر رئاسي جديد في العاصمة الإدارية. إن توفير 100 مليون جنيه من بند التغذية للأطباء لن يغطي حتى 1% من تكاليف هذا القصر.
كيف يمكن تبرير بناء قصور بمليارات الجنيهات في بلد مليء بالقصور الرئاسية، في الوقت الذي يُحرم فيه الأطباء من وجبة لا تزيد قيمتها عن 100 جنيه؟ هذا التناقض الفاضح يعكس حالة من السفه في إدارة الموارد المالية، حيث يتم تجاهل الفئات التي تحمل على عاتقها مسؤولية حماية الصحة العامة، في مقابل صرف المليارات على مشاريع لا تخدم المواطن البسيط.
حكومة تزيد الوضع سوءًا
بينما تستمر الحكومة في زيادة الأعباء على الأطباء وتجاهل مطالبهم المشروعة، فإن النتيجة الحتمية ستكون المزيد من الاستقالات والهجرة إلى الخارج.
سيظل القطاع الصحي في مصر يعاني من نقص حاد في الكوادر، وستستمر جودة الخدمات في الانهيار. الحلول موجودة، لكن يبدو أن الحكومة عازمة على اتخاذ كل قرار من شأنه أن يزيد الوضع سوءًا، دون مراعاة العواقب الوخيمة.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط