أنور الغربي، رئيس مركز جنيف للديمقراطية وحقوق الانسان
منتصف ديسمبر 2010 أقدم شاب يدعى محمد البوعزيزي من تونس على اضرام النار في جسده احتجاجا على الظلم والقهر وتحولت المطالب الى مظاهرات شعبية للاحتجاج على غياب العدالة ورفضا لسياسة الطغيان والمحسوبية والفساد.
انطلقت الاحتجاجات ومعها آلة القمع لإخراس واسكات وسجن الغاضبين من سياسة التهميش والظلم والاستعباد. احترق الشاب، ولكنه باحتراقه أوقد شعلة في بيئة عربية كانت معبأة لتقبل شعارات عفوية تحولت الى مطالب شعبية في الحرية والكرامة والعدالة.
وأدت تلك الموجة من الاحتجاجات المطالبة بالحرية والكرامة الإنسانية إلى إنهاء حكم زين العابدين بن علي / تونس ومعمر القذافي/ ليبيا وحسني مبارك /مصر وعلي عبد الله صالح / اليمن. كما أدت موجة الاحتجاجات إلى إصلاحات دستورية في المغرب والى مراجعات عدة في عدد من البلدان وأثرت على السياسات. وفي المقابل، رأت بعض الأنظمة القائمة حينها بأن مطالب الحرية والكرامة ربما تصيبها وتفرض عليها تنازلات لم تكن مهيأة ولا مستعدة لها. وسارعت دولة البحرين والإمارات العربية إلى اتخاذ إجراءات امنية أدت إلى اعتقال المئات وتغييبهم في السجون مع حملات إعلامية تشويهية بعضها متواصل الى اليوم.
وسط تلك التقلبات كان مفاجئا للمراقبين حينها أن السوريين كانوا من أوائل من نزل للميدان للاحتجاج والمطالبة بإصلاحات في منظومة الحكم والقضاء على الظلم والفساد في أجهزة الدولة.
وكانت المطالب حقوقية وعبر عنها المتظاهرون بأساليب مدنية حضارية راقية جابهتها منظومة الحكم بإطلاق الرصاص في الشوارع واختطاف النشطاء وتعذيبهم وقتل العديد منهم وترهيب عائلاتهم وأدت التدخلات الأجنبية في الصراع بين منظومة حكم ترفض أي إصلاحات مستحقة وشعب يرفض العبودية الى تأجيل الحسم النهائي.
إن المطالب التي رفعت في الشوارع سنة 2011 هي نفسها التي قادت تحركات الفصائل وأنهت منظومة الحكم في 11 يوما دون قتال يُذكر، وفي 2011 وقفت دولتا تركيا وقطر مع مطالب الشعب السوري ودعمتها أيضا دول غربية بمستويات مختلفة مثل المانيا والدول الاسكندنافية، وكندا، وأحيانا، واشنطن.
وفي المقابل، كان محور الثورة المضادة والذي صار يعرف لاحقًا بمحور دول التطبيع العربية وإسرائيل وفرنسا وإيطاليا ودول وحكومات متنوعة تقدم كل ما تستطيع في سبيل الاجهاز على إرادة الشعوب وانهاء حالة إرادة الحرية والكرامة الإنسانية للجميع.
ومع اندلاع الصراع في أوكرانيا والانشغال الروسي والحرب على غزة والتورط الأمريكي والغربي إلى جانب إسرائيل، كان واضحا بداية انهيار منظومة القيم والقوانين الدولية القائمة وغلبة لغة القوة على لغة الديبلوماسية والقانون الدولي والانساني.
فبسبب سكوت العالم على بشاعة الجرائم الإسرائيلية وعجز الأمم المتحدة عن القيام بدورها والفوضى التي أعقبت تفسير وتأويل ما تصدره الهيئات الأممية، رأت المعارضة السورية المسلحة وشركائها من الاتراك أساسا بأن الوقت حان لحسم المعركة مع نظام البعث وعائلة الأسد في ظل التوازنات الجديدة.
أولاً: الرابحون من الأوضاع الجديدة في سوريا
(1) الشعب السوري
الذي خاض معارك الاستعصاء ضد القمع والظلم ومن أجل الحرية والكرامة وبدعم من شركائه نجح في التخلص من الديكتاتورية وأنجز بسواعد وإرادة أبنائه التحرير والخروج من السجن الكبير واسترجاع كرامته لدى كل مكونات المجتمع وثقته في قدراته الجماعية وكرامته الانسانية وبداية العمل الى استرجاع سيادته على الأراضي المنتهكة.
فقد شاهدنا ولادة هوية مجتمعية ووعي كبير بالانتماء والولاء للبلد وليس لحزب أو طائفة أو عائلة. ولاحظ المراقبون هبّة مجتمعية مبدعة ومبادرات وتصريحات واعية وواعدة ومطمئنة للجميع بما يوحي أنه وقعت الاستفادة ربما من التجارب الماضية مع فهم عميق ومدروس للواقع المحلي والدولي.
ومن المؤكد وجود مخاوف وتحديات ومعوقات كبيرة للتغلب على التناقضات الداخلية بين الفصائل المختلفة وعلى رأسها جبهة تحرير الشام وقيادة الجيش الحر والأكراد والمجموعات المختلفة في الساحل السوري والاطراف المسيطرة على الاقتصاد وجماعات الضغط خاصة أنه لا توجد حاليا مضلات تؤطر مثل الأحزاب والهيئات وجمعيات المجتمع المدني الرقابي.
ولكن في ظل الهبة الشعبية العارمة والترحيب الإقليمي والدولي الكبير بالإنجاز، فان العقلاء في البلد سيسعون بلا شك إلى إيجاد صيغ تسمح بالتعايش والاحترام في إطار دولة القانون والمؤسسات الديمقراطية التي حلم بها الجميع وصارت اليوم في متناول الجميع.
وبدأ العقلاء في الوطن يتحدثون عن ضرورة تجاوز الإرث الثقيل للنظام السابق والإسراع بإرساء منظومة العدالة الاجتماعية مع التنمية الاقتصادية والبشرية، والعمل على بعث المؤسسات الديمقراطية المنبثقة عن إرادة الشعب وتوطيدها، وكل ذلك في ظل السيادة الوطنية والشراكات المدروسة.
وأما التحدي الآخر الذي يجب أن يعمل عقلاء سوريا على تجاوزه هو ادماج المكونات كافة في اطار مؤسسات الدولة السورية الواحدة والاتفاق على رؤية استراتيجية طويلة الأمد تحدد توجهات سوريا المستقبلية وتحدد موقعها الجيوسياسي وطبيعة الشراكات خاصة أن سوريا الجديدة سوف تحتاج لكفاءاتها في الداخل والكفاءات التي ستعود إلى البلد.
كما تحتاج إلى دعم مالي كبير من الدول والمؤسسات المالية لإعادة بناء البنية التحتية المنهارة وخلق الثروة أخذا في الاعتبار تحقيق التوازن بين الاعتماد على الإمكانيات الذاتية والشركاء والدعم الخارجي الذي يحترم استقلال وسيادة سوريا على كل أراضيها ومقدرات شعبها.
(2) الشعوب العربية الحرة
هي أيضا من أكبر الرابحين إذ أنها عاشت مرحلة توجس وخوف من عودة ثقافة “الاستحمار” للشعوب العربية وترسيخ منظومات مستبدة وظالمة ترسخ العبودية في أذهان وعقول الأجيال وتفرط في الثروات وتبددها وتصادر حقوق الأجيال في الحرية والعدالة.
وترتكز الشعارات، التي رفعها السوريون وعلى أساسها تمكنوا من تحرير بلادهم، على الهوية الوطنية الجامعة للأغلبية من أبناء الشعب وعلى القطع مع المفاهيم الاستعمارية التي ترسخ ثقافة العجز والانعزالية والقبول بالظلم. وقد رأينا هذه الشعوب تعود لإحياء قيم العدالة والحرية وتتصدى للمشاريع الهجينة من اجل الإصلاح والبناء على قواعد وثقافة مجتمعية سليمة.
ورأينا نداءات ومبادرات شبابية راقية وشهدنا دعوات مواطنية تدعو للعمل والحوار من أجل حقوق الجميع وهذا يحتاج الى بناء ثقة بين الجميع والى منظومات مستقرة تحافظ على السيادة وتنتج الثروة المستدامة لكل مكونات المجتمع.
ولقد سمعنا بدعوات ملحة للسوريين بضرورة إعطاء الأولوية إلى اصلاح منظومات الإعلام والتعليم والثقافة والمؤسسات القانونية لضمان العدالة وهي كلها دعوات تبين الحرص الكبير على الانخراط في مشروع بناء الدولة الجديدة التي يعمل السوريون على تنفيذها.
(3) منظومة القيم والعدالة
القائمة على احترام المؤسسات وإرادة الشعوب والحريات العامة والخاصة سوف تستفيد جدا مما حصل في سوريا لان ذلك سيزيد الضغط على المنظومات التي تعمل بعقلية القراصنة والكيانات الخارجة عن القانون والاتفاقيات الدولية. فنحن نعيش في عالم تتزايد فيه الحاجة لبناء الانسان والعمل في إطار المؤسسات للتصدي لإرادة الهيمنة والتوحش والتسلط والاستيلاء على حقوق الاخرين.
ويحتاج العالم ضمن هذه المنظومة الى التحري وتعزيز منظومات الرصد والرقابة والتعاون من أجل ملاحقة المجرمين ومحاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها لينالوا العقاب الذي يستحقونه وليكونوا عبرة لغيرهم.
والثابت والمعلوم بعد كل التجارب التي درسناها خلال السنوات الماضية بأن منظومات الحكم المرفوضة شعبيا لا يمكنها أن تبني استقرارا أو تنمية أو تحقق أيا من الأهداف التي تسعى لتحقيقها المنظومة الدولية.
فهذه المنظومات تستعمل غالبًا أساليب الترهيب للناس وتستعين بالقضاء لظلمهم وبالإعلام لاستحمارهم وبالاقتصاد لتفقيرهم وهذا كله يؤدي الى تعميم الجهل وبالتالي انتاج الإرهاب وتوجيهه كما يؤدي إلى تضاعف الجرائم الفظيعة والهجرة الفوضوية وإلى تعميم الجريمة في المجتمعات وبين الشعوب.
(4) تركيا
أجمع المراقبون على أن تركيا هي أكبر المستفيدين من الوضع الراهن وكان لافتًا جدًا تصريحات رئيسها أردوغان بأن الثوار سائرون نحو دمشق بعد أن رفض بشار الاسد كل المحاولات التركية الداعية للتفاوض الجدي. وكان حضور وزير خارجيتها ورئيس جهاز مخابراتها كأول الواصلين إلى دمشق وتسمية قائم بالأعمال بعد ساعات من التحرير، رسالة لكل الأطراف داخل سوريا وخارجها.
فمن المؤكد أن تركيا استفادت بشكل كبير من الأوضاع الإقليمية والدولية خاصة بعد فشل المحاولة الانقلابية على النظام سنة 2016 وانكشاف من يقف خلف العملية وتعاطي الاتراك مع وضعهم ببراغماتية وتخطيط استراتيجي سمح لهم بجني عديد المكاسب.
وقد كان لدعم الأتراك للحكومة الشرعية في طرابلس دور كبير في استقرار الأوضاع في ليبيا وكان دعمهم لأذربيجان ضد أرمينيا رسالة للمشككين في التقنية والصناعات الحربية التركية، وكان بدء الاستثمار في ثروات البحر الأبيض المتوسط هو إعلان نهاية مرحلة سيطرة الفرنسيين والايطاليين والأوروبيين عمومًا على الأوضاع.
ولا ننسى حضورهم العسكري الكبير في قطر غداة الإعلان عن الحصار من طرف بعض دول الجوار ومصر سنة 2017 وهذا الحضور المباشر كان له دور حاسم في تحديد وجهة الصراع والهيمنة حينها.
ويحسب للأتراك تبنيهم لمطالب الشعب السوري منذ 2011 ثم دعمهم لإدارة ادلب منذ 2015 ومن ثم بناء قدرات جديدة للتسيير، واليوم يمكن القول إن أنقرة ستبدأ عمليًا في جني ثمار استثمار دام لسنوات طويلة.
فتركيا استقبلت أكثر من 3 ملايين سوري ساهمت نسبة كبيرة منهم في الدورة الاقتصادية لتركيا ومن الواضح أنه لن يبقى في تركيا مشكلة سياسية بعنوان اللاجئين السوريين بعد التحرير.
كما تعمل تركيا على تحجيم الوجود العسكري لحزب العمل الكردستاني وبالتأكيد سيكون لتركيا النصيب الاوفر في مشاريع إعادة اعمار سوريا المهدمة وذلك لعدة اعتبارات منها الجهوزية والتنافسية في انجاز المشاريع الكبرى والقرب الجغرافي وأيضا التسهيلات في المعاملات في الاتجاهين.
وكان واضحا من البداية أن الاتراك – ومعهم القطريون – نجحوا في تحييد الروس والإيرانيين قبل أن تبدأ معركة تحرير سوريا ولهم حججهم ومصالحهم في ذلك.
(5) دولة قطر
كان الحضور القطري في سوريا المحررة بارزا وكانت المواقف السابقة للدوحة متميزة حيث رفضت الاعتراف بمنظومة نظام بشار الأسد بالرغم من استماتة الجامعة العربية لإعادته وهرولة الأنظمة المطبعة لمحاولة تبييض النظام وإعادة تسويقه خارجيًا وهو ما لم يحصل، كما أن العديد من قادة المعارضة السياسية السورية كانوا يقيمون في الدوحة وكانت لهم مؤسساتهم التي يديرونها ويشرفون عليها.
ويحسب أيضا لقطر أنها وقفت الى جانب حرية الشعوب ومطالبها بعدما ساهمت في بناء الوعي المواطني من خلال شبكة الجزيرة والملتقيات والمؤتمرات التي تنظمها والمشاريع التي تنجزها في عدد من البلدان في مجالات التنمية وبناء وعي الانسان وتثبيت حقوقه في العيش الكريم والحرية والتنمية المستدامة.
ويبدو أن المسؤولين في قطر لهم حساباتهم وعلاقاتهم وارتباطاتهم وقناعاتهم ويعتمدون على مراكز البحوث والدراسات لديهم، ولكن الثابت أن وقوفهم الى جانب الشعوب مكنهم من لعب أدوار مميزة مثل دعم حقوق الشعوب ولعب دور بارز في ملف خروج الأامريكيين من أفغانستان أو تبني الملف الفلسطيني ودعم غزة لسنوات طويلة والقيام بدور الوساطة المقبولة من أجل وقف حرب الإبادة والتهجير والقتل وكانت مواقفها المعلنة كلها تصب في صالح القضية الفلسطينية.
(6) الحكومات والمنظمات والمؤسسات الداعمة لحقوق الشعوب
لقد عبرت العديد من الحكومات وخاصة الغربية منها عن ترحيبها بالوضع الجديد في سوريا. ولا شك أن بعضهم من أجل مصالحه الاقتصادية وحماية مشاريعه وبعضهم الاخر من أجل التخلص من أعباء مشكلة اسمها اللاجئون السوريون ولكن الثابت أن حكومات ومنظمات ومؤسسات وجمعيات دولية عديدة تتبنى مطالب الشعب السوري وتحييه على جرأته وشجاعته وهي معجبة أيضا بالكيفية التي وقع بها التغيير خاصة أن النظام السوري كان يتصدر التقارير الدولية والاممية في مجال انتهاكات حقوق الانسان وفي المقابل كانت سوريا تتذيل التصنيفات الدولية في مجالات الحريات والعدالة والشفافية والديمقراطية والمجالات الخدمية مثل قطاعات الصحة والتعليم .
ثانياً: الخاسرون بعد سقوط بشار الأسد
(1) منظومة الديكتاتورية والاستبداد
سواء كانت داخل سوريا أو خارجها فان هذه المنظومة أصيبت بشكل مباشر ولن تستطيع إعادة انتاج العنف وتعميم الظلم، بل ستسعى لإظهار تبايناتها واختلافاتها مع منظومة حكم بشار الأسد ولعل ما نراه من ردود فعل أتباعها في بعض الاعلام العربي خير دليل على التخبط والتيه وضياع البوصلة لديهم.
(2) بلدان التطبيع العربية والأنظمة العبثية التابعة
على إثر مراجعة سريعة للبيانات والبلاغات التي صدرت عن الحكومات ووزارات الخارجية في عدد من البلدان العربية المناهضة لحرية الشعوب تبين أن تلك الحكومات كانت تعيش حالة انكار للواقع وكانت تصف المعارضة السورية بالجماعات التكفيرية والارهابية أياما، بل ساعات قبل تحرير دمشق والغريب أن بعض تلك الحكومات إما سكتت أو غيرت لهجتها ومفردات خطابها وبعضها انكفأ على نفسه وأوعز للمنظمات والجمعيات والاعلام التابع لها للنيل من منجزات ثورة التحرير والتشكيك في ولاءات رجالها والمجموعات المساهمة والفاعلة فيها. والغريب أن بعض تلك الحكومات وفي مقدمتها دولة الإمارات لا تتردد في الإعلان عن شروطها للقبول بالوضع الجديد، بل تذهب الى تحذير السوريين وشركائهم في الغرب من أخطار ما حصل يوم 8 ديسمبر 2024 وتبعاته.
(3) إيران
إن مشكلة إيران الأساسية في سوريا أنها دعمت نظام الأسد ليس من منظور سياسي مصلحي، بل من منظور ديني طائفي. لقد كانت إيران تتحكم عمليًا في القرارات المصيرية الكبرى في سوريا وساعدت في تغيير التركيبة السكانية للمناطق، ومدت بشار الأسد بما يحتاجه من أجل البقاء في السلطة، رغم محدودية سلطته الفعلية منذ 2015. وبالإضافة لقواتها التابعة للأجهزة الإيرانية المختلفة استعانت إيران بمجموعات قتالية من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان وتونس وعدة دول أخرى لفرض بشار الأسد على السوريين على امتداد 14 سنة. صحيح أن بعض المسؤولين الإيرانيين كانت لهم الإرادة والرغبة في إيجاد حل يضمن مصالحهم ويحافظ على وحدة أراضي سوريا ويحقن دماء مئات الالاف من السوريين.
ويبدو ان الإيرانيين اكتشفوا مؤخرا بأن استثمارهم في بشار الأسد ومن معه استثمار خاسر خاصة أن مساهمته فيما تسميه إيران محور المقاومة كان شبه معدوم وتحول الى عبء حقيقي غير قادر على حماية نفسه أو الرد على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية واستهداف الإيرانيين ورجال المقاومة بدقة تدل على أن منظومة بشار غير قادرة على الحماية أو الرد.
ولا شك أن المخابرات التركية قدمت للإيرانيين والروس معلومات مهمة جعلتهما يتخذان القرار بالتخلي عن مواصلة حماية بشار الأسد ومنظومته وهو ما سرع بانهيار المنظومة القائمة وبالتالي حسم الامر لفائدة الثوار وشركائهم الاتراك.
(4) روسيا
من المعلوم ان الحضور الروسي ومن قبله السوفيتي جد بارز ومؤثر في سوريا، ولكن لم يبرز هذا الدور إلا بعد أن قرر بوتين الدخول بقوة في سوريا سنة 2015 وتركيز قواعد عسكرية كبيرة وتحول منذ ذلك الوقت الملف السوري إلى الروس والإيرانيين.
وواضح ان انشغال الروس بحربهم في أوكرانيا ومحاولة تصديهم للجبهات الغربية ضدهم في عديد الواجهات جعلتهم يغيرون أولوياتهم. وتعددت الواجهات والمعارك ومنها إصدار بطاقة جلب ضد بوتين من طرف محكمة الجنايات الدولية، كما أدت إلى تجميد أرصدة مالية بعشرات المليارات من الدولارات والى مقاطعة روسيا في كل الفعاليات الدولية الرياضية والثقافية، وتمكين أوكرانيا من أسلحة متطورة وأموال كبيرة لصد ما يعتبرونه اعتداء روسيا. كما حاصروا روسيا من خلال انضمام جيرانها من الدول الاسكندنافية لحلف الناتو. وما هو مِؤكد أنه ما كان لبوتين أن يتخلى عن بشار الأسد لولا التدخل التركي الحاسم في الموضوع، ووضع الاتراك لأهدافهم التي لا يمكنهم التخلي عنها بعد أن رفض الأسد التفاوض الجدي.
ولعل ما يهم الروس بدرجة أساسية هو كيفية المحافظة على مصالحهم وخاصة وجود قواعدهم العسكرية في المنطقة في ظل التهديدات الجدية للطيران المسير الذي يمتلك منه السوريون الكثير بحسب التقارير الموثوقة.
كما يأخذ الروس في الحسبان موقف الغرب والاتحاد الأوروبي الذي وضع شرط خروج روسيا بالكامل من سوريا حتى يشارك الأوروبيون في إعادة اعمار سوريا والاعتراف بالسلطات الجديدة فيها.
ويدرك القادة في روسيا بأن دمشق الجديدة ستكون لديها القدرة التفاوضية العالية السقف تجاه الروس، ولكن ربما يعولون على الاتراك وبدرجة أقل البريطانيين من أجل الإبقاء على بعض مصالهم في سوريا.
وستعتمد النتائج النهائية على تفاعل مجموعة معقدة من العوامل الداخلية والخارجية، بما في ذلك مواقف القوى الإقليمية والدولية، والاتفاقات المحتملة بين موسكو ودمشق الجديدة، والضغوط الشعبية داخل سوريا.
والأمر الإيجابي أن روسيا منحت بشار الأسد وعائلته اللجوء الإنساني وليس السياسي وهو ما يترك الباب مفتوحا لتعاون روسي لتسليم بشار للمحاكمة اما داخل سوريا أو في محكمة الجنايات الدولية بالنظر لوجود عشرات الشكاوى المودعة ضده وضد عدد من أركان حكمه.
(5) فرنسا وحكومات اليمين المتطرف في الغرب
لقد كانت الحكومات الفرنسية المتعاقبة تعتبر ان سوريا ولبنان تقع تحت نفوذ فرنسا وسلطتها وهي تعمل على “حماية المسيحيين والأقليات” وتعاملت على هذا الأساس لسنوات طويلة، لكن بعد 2012/2013 تورطت فرنسا في الصراع المسلح وأثبتت التحقيقات بأن شركات فرنسية معروفة كانت تمول بعض الجماعات الإرهابية التي ارتكبت فظاعات ومجازر بحق المدنيين السوريين، ولم يكن واضحا ما هي المصلحة الفرنسية في كل ذلك، ولكن مع انفلات الأوضاع وسيطرة الجيش الأمريكي على مناطق الاكراد ودعم الاتراك للثوار على المناطق الحدودية وسيطرة الروس على القرار السياسي والعسكري في دمشق وجدت فرنسا ودولا أخرى نفسها خارج المعادلة.
والثابت أن الحكومات اليمينية المتطرفة وتلك التي لديها موقف عدائية تجاه ثقافة الاخرين ودينهم سيسعون لوضع العراقيل أامام السلطات الجديدة في دمشق لانهم يعتبرون أان الديمقراطية منظومة لا تصلح لغيرهم وأنه الأفضل لهم التعامل مع ديكتاتوريات يسهل فرض الاملاءات عليها وتطويعها لخدمة مصالحهم.
(6) الجماعات العنيفة وأصحاب المشاريع العبثية
لا مصلحة للجماعات الإرهابية والعنيفة ولمنظومات الحكم العبثية أن تنجح السلطات في سوريا في ترسيخ وتثبيت نظام ديمقراطي عادل يحارب الجهل والفقر والتبعية وستعمل هذه المنظومات على وضع العراقيل والتشكيك في العملية السياسية الجارية عبر بث الاشاعات والرعب والخوف والتحذير من القائمين على العملية السياسية ومن يدعمهم من الشركاء.
(7) حالة الولايات المتحدة الامريكية وإسرائيل
أصبح واضحا أنه لا يمكن فصل المصالح الامريكية عن الإسرائيلية وهذا ما يكرره المسؤولون في كل مناسبة. ولقد نجحت الولايات المتحدة الامريكية وإسرائيل على المستوى التكتيكي، ولكنني أرى أن الخيارات الاستراتيجية ليست في مصلحتهما إذا واصلا اتباع نفس السياسة أي الهيمنة والسيطرة بالقوة العسكرية. وسيحدد تعاطي الأمريكيين مع الوضع الجديد بلا شك كيفية تعامل الاتراك معهم مستقبلا.
فقد أعلن الأتراك صراحة بأنهم لن يسمحوا بهيكل مسلح للأكراد يمكن أن يستعمله حزب العمل الكردستاني لمهاجمة الأراضي التركية مثلما فعلوا في الماضي في عديد المناسبات. وكما هو معلوم فان الامريكان هم من يسلح ويدعم “قسد” وفي حال عدم التوصل لحل سياسي يدمج أكراد سوريا في مؤسسات الدولة السورية الواحدة فان الاتراك سيكونون أمام تحد كبير تجاه شعبهم وتجاه الوعود التي أعطوها للثوار السوريين منذ سنوات وهو دولة موحدة ولا سلاح خارج سلطة الدولة السورية الجديدة.
وأما بخصوص إقدام إسرائيل على احتلال أراض ومواقع استراتيجية داخل سوريا وتدمير الطيران والمعدات الآليات العسكرية السورية خارج وضع حالة حرب فإنه يمثل دليلًا آخر على استخفاف الحكومة الاسرائيلية بالمنظومة الدولية، وإهانة مؤسساتها وطبعا بإمكان الحكومة السورية المقبلة أن تطالب وتعمل على تحرير أراضيها بالأساليب المتاحة، كما تطالب بالتعويضات عن الخسائر الفادحة والكبيرة نتيجة اعتداءات غير مبررة ولا مقبولة بالمنطق القانوني الدولي.
ولم تكتف إسرائيل باحتلال الأراضي داخل سوريا بعد لبنان، بل ان تقدمها باتجاه الأردن ومحاصرتها من الجبهة السورية يطرح أكثر من تساؤل عن أهدافها ومخططاتها.
(8) القضية الفلسطينية: خسارة تكتيكية ومستقبل استراتيجي داعم
ما هو معلوم الان انه عشية مغادرة بشار الأسد لدمشق كان الجيش الإسرائيلي يسيطر على 14 موقعا داخل الأراضي السورية كما كان لدى الإسرائيليين كل التفاصيل عن السلاح السوري الذي كان تحت إمرة نظام بشار الأسد.
والواضح أيضا أنه سيكون من الصعب السماح للتنظيمات الفلسطينية المسلحة بالمحافظة على سلاحها خاصة أن بعضها كان منخرطا في منظومة حكم الأسد، ولديها خلافات فيما بينها وبعضها خلافات تاريخية متجذرة، كما أنه من غير الوارد السماح بإقامة قيادات المقاومة الفلسطينية في سوريا على الأقل في المدى القصير والمتوسط. ويحتم المنطق والعقل حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في سوريا وتمكينهم من حقوقهم كاملة في إطار القوانين المرعية.
أما التخوف الأكبر والمتعلق بالتطبيع فإنه مستبعد في الظرف الراهن وذلك لعدة أسباب منها أن محور التطبيع العربي سيعمل على إفشال المسار الديمقراطي في سوريا، كما أن وجود الاتراك والقطريين فيه سند كبير لمسار الحفاظ على دعم الحقوق الفلسطينية المشروعة بالنظر لما اكتسبوه من راس مال رمزي لدى كل الشعوب المحبة للعدالة والمطالبة بتحرير فلسطين. وتوجد مسالة أخرى مهمة للغاية وهي أن الحاضنة الطبيعية للثورة والثوار، وهم من قادة المسار الجديد ترفض التطبيع المهين والتبعية للهيمنة الامريكية الإسرائيلية على المنطقة.
والعامل الرابع الذي يحول دون الذهاب لخيار التطبيع المهين هو السياسة العدوانية لإسرائيل فكما هو معلوم فان إسرائيل جعلت من ديمقراطيتها المزعومة ورقة تلوح بها كلما طلب منها احترام حقوق مواطنيها من غير اليهود وصورت على أنها واحة الديمقراطية والحرية في منطقة انقلابات عسكرية وحكومات بدائية…
وقد عملت في الماضي على تخريب المسار الإصلاحي والديمقراطي في المنطقة، ولم تستسغ وصول الإسلاميين إلى السلطة وكان هذا واضحا من خلال حصار غزة منذ 2007 وتورطها في المجازر بحق المصريين عبر التحريض عليهم ومحاولة تضخيم الاحتجاجات في تركيا والاضرار باقتصادها عبر استهداف عملتها إضافة للتدخل عبر أدواتها للتلاعب بالتجربة الديمقراطية في تونس عبر توجيه الناخبين والتأثير على نتائج الانتخابات التي أدت لاحقا الى ردة على الديمقراطية والمؤسسات والهيئات الدستورية في البلاد.
خاتمة
يُدرك السوريون أنه ليس من مصلحة أي طرف أن يهيمن على مقاليد السلطة في البلاد، وأن الوسائل الديمقراطية والشراكة الفعلية والحقيقية للشعب تبقى صمام أمان ودرعًا واقيًا في وجه الثورة المضادة، والمتضررين من التحولات الديمقراطية.
وكما يقال فان “الأمة التي لا يشعر كل فرد فيها بمسؤوليته، لن تُحقق حريتها”.
المصدر: مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية
نسخ الرابط تم نسخ الرابط