تنتاب نتنياهو الآن حالة من النشوة الكبرى، تجعله يعتقد أنه بات قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلمه في أن يصبح ملكاً متوّجاً على “دولة إسرائيل” التي باتت قادرة في عهده على إعادة بناء “الهيكل الثالث”.
فهو يبدو على قناِعة تامة أنه تمكن من تدمير القدرات القتالية لجميع فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، ليس في قطاع غزة فحسب، وإنما في الضفة الغربية أيضاً، ومن شل القدرات القتالية لحزب الله في لبنان، ومن إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا، وبالتالي لم يعد الكيان الصهيوني يواجه أي تهديد جدي من جانب أي من دول الجوار التي كان يطلق عليها في ما مضى “دول الطوق”، وذلك لأول مرة في تاريخه.
فمصر ترتبط مع الكيان الصهيوني بمعاهدة سلام منذ عام 1979، والأردن ترتبط معه بمعاهدة مماثلة منذ عام 1994، وقطاع غزة أصبح مدمراً بالكامل، والضفة الغربية أصبحت خالية من أي مقاومة يعتد بها، والحدود اللبنانية باتت مؤمنة تماماً بعد ضمان إبعاد حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني، وبعد أن تم قطع خطوط إمداداته مع سوريا التي خرجت بدورها من حلبة الصراع، وربما تكون في طريقها الآن إلى إبرام معاهدة سلام مع الكيان.
ومن الطبيعي، في ظل هذا الإحساس العارم بالنشوة، أن يسيل لعاب نتنياهو تجاه إيران التي يحلم بالتهامها الآن، خصوصاً عقب فوز ترامب بانتخابات الرئاسة الأميركية، بل ويعتقد أن الظروف باتت مهيأة تماماً لتوجيه ضربة قاصمة تؤدي إلى إسقاط النظام الإيراني الذي يعتقد أنه يستحيل على الكيان الصهيوني أن يتعايش معه، ومن ثم فليس أمامه من خيار آخر سوى العمل بكل جدية على إسقاطه. فكيف ستتعامل إيران مع أخطار من هذا النوع، باتت محدقة وربما وشيكة؟
لقد أدركت إيران جيداً، ومنذ اللحظة الأولى لاندلاع ثورتها الإسلامية في نهاية سبعينيات القرن الماضي، أن الكيان الصهيوني يمثل تهديداً حقيقياً وجدياً بالنسبة لها، لكن يبدو أنها تعاملت معه باعتباره تهديداً يمكن مواجهته وتحييده بطريقة غير مباشرة، أي عبر حلفاء وشركاء في المصير، ما دفعها إلى الاعتقاد أن بمقدورها الانتصار عليه بالنقاط، عبر عمليات استنزاف مستمرة يتكفل بها حلفاء على تماس مباشر مع الكيان، وليس بالضربة القاضية عبر صدام عسكري مباشر بين الكيان وإيران البعيدة عنه جغرافياً، ولهذا السبب لم تتردد إيران في التعاون مع كل الأطراف العربية التي اعتبرت نفسها، لسبب أو لآخر، في مواجهة مسلحة مع الكيان.
فقد قدمت إيران بالفعل أقصى ما تستطيع من دعم سياسي وتسليحي وتدريبي ومالي لحزب الله الذي خاض مواجهات عسكرية ناجحة مع الكيان، سواء عبر عمليات مقاومة مسلحة مكّنته من تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة في الجنوب وإجبار قوات الكيان على الانسحاب غير المشروط منها عام 2000، أو عبر حرب شاملة استهدفت تدميره عام 2006 لكنه صمد في مواجهتها وحال دون تمكين الكيان من تحقيق أهدافه منها.
كما نجحت في الوقت نفسه في إقامة علاقات قوية مع العديد من فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، خصوصاً مع حركتي حماس والجهاد، وفي إقامة علاقات متميزة مع سوريا خلال فترتي حكم الرئيسين حافظ وبشار الأسد.
غير أن التفاعلات الناجمة عن “طوفان الأقصى”، الذي يبدو أنه فاجأ الجميع، أجبر إيران على الدخول في صدام عسكري مباشر مع الكيان، وذلك لأول مرة في تاريخ الطرفين. ومن الواضح أن إيران خاضته مترددة أو حتى مرغمة والأرجح أنها كانت وما تزال تسعى لتجنبه قدر الإمكان.
لا يتسع المقام هنا لسرد الاستفزازات التي قام بها الكيان للتحرش بإيران، لأنها أكبر من أن تحصى. ورغم أن العديد منها استحق رداً عسكرياً فورياً ومباشراً، فإن إيران لم تعبّر علناً عن نيتها القيام برد عسكري مباشر على الكيان إلا في ثلاث مناسبات فقط، وحين وقع أطلقت عليه اسم “الوعد الصادق”، لكنها لم تنفذه إلا في حالتين فقط، الأولى: حين قامت في 14 إبريل/ نيسان بالرد على تدمير القنصلية الإيرانية في دمشق في 1 إبريل/ نيسان، والثانية: حين قامت في 1 أكتوبر/تشرين الأول، بالرد على عمليات اغتيال كثيرة، من بينها اغتيال إسماعيل هنية في طهران واغتيال حسن نصر الله في بيروت واغتيال قادة آخرين من الحرس الثوري الإيراني في تواريخ مختلفة.
وبينما أخذ “الوعد الصادق 1” شكل استعراض واضح للقوة، أرادت إيران من ورائه إثبات قدرتها على الوصول إلى الكيان وعلى إلحاق الأذى البالغ به، نجح “الوعد الصادق 2” في إلحاق أضرار فادحة بقاعدتين عسكريتين في الكيان على جانب من الأهمية، بدليل قيام الأخير بالرد على هذه العملية يوم 25 أكتوبر/ تشرين الأول.
ورغم مسارعة إيران في الإعلان عن نيتها الرد على الرد، فإن “الوعد الصادق 3” لم ينفذ حتى الآن، رغم مرور ما يقرب من شهرين على الإعلان عنه، ما يدل على أن إيران تمارس سياسة ضبط النفس تجاه الكيان وتحرص على إخضاع ما تقوم به من عمليات مسلحة تجاهه لحسابات كثيرة ومعقدة، بعكس الكيان الذي يمارس تجاه إيران سياسة استفزازية متعمدة ومتهورة.
يرى الكيان أن إيران تشكل تهديداً وجودياً بالنسبة إليه، ليس بسبب ما تقدمه من دعم لحزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية فحسب، ولكن أيضاً لأن لدى إيران برنامجين متقدمين على الصعيدين العلمي والتقني، أحدهما نووي وصل إلى درجة تتيح لها القدرة على تصنيع سلاح نووي في الوقت الذي تريد، والآخر صاروخي وصل إلى الدرجة التي تمكنها من تصنيع صواريخ “فرط صوتية” ومسيرات على درجة كبيرة من التطور التقني.
ولأن الكيان يصر على احتكار السلاح النووي في المنطقة لنفسه فقط، ويحرص في الوقت نفسه كل الحرص على أن تميل موازين القوى في المنطقة لصالحه دائماً، فليس من المستبعد أن يقدم على ارتكاب أي حماقة، بما في ذلك الدخول في حرب مفتوحة مع أي دولة في المنطقة يتأكد أنها تسعى للحصول على مستوى من المعرفة التقنية يسمح لها بتصنيع سلاح نووي، أو تقوم بأي أمر يترتب عليه إحداث خلل في موازين القوة القائمة في المنطقة، وهو ما يفسر معارضة نتنياهو الشرسة للاتفاق الذي وقعته مجموعة 5+1 عام 2015، والدور الكبير الذي لعبه ليس لإقناع ترامب بإخراج الولايات المتحدة من هذا الاتفاق عام 2018 وبفرض عقوبات شاملة على إيران، وإنما أيضاً لعرقلة المساعي التي بذلتها إدارة بايدن للعودة لاحقاً إلى هذا الاتفاق.
أما وقد فاز ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية الأخيرة وأصبح الآن على وشك الدخول إلى البيت الأبيض من جديد، في ولاية ثانية وأخيرة له، يتصور نتنياهو أن الطريق بات ممهداً أمامه لإقناع ترامب بأن الوقت قد حان للتخلص من النظام الإيراني مرة واحدة وإلى الأبد.
تجدر الإشارة إلى أن نتنياهو على تواصل دائم مع ترامب، الذي يحاول البعض إقناعه الآن بأن إيران هي التي تقف وراء محاولة اغتياله إبان حملته الانتخابية، وذلك منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية التي جرت يوم 5 نوفمبر/تشرين الثاني. وقد أفادت تقارير صحفية نشرت مؤخراً في صحف أميركية عديدة، من بينها “وول ستريت جورنال” ومجلة “تايم”، بأن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب وعدداً من الشخصيات المرشحة لتولي مناصب رئيسية في إدارته “يعكفون هذه الأيام على دراسة الخيارات المتاحة كافة، بما في ذلك إمكانية شن غارات جوية، لوقف البرنامج النووي الإيراني”.
ويبدو أن الرأي السائد في أوساط هذه الإدارة بات الآن مقتنعاً بأن “الضغوط الاقتصادية لم تعد كافية لاحتواء طهران، ومن ثم يتعين عدم استبعاد الخيار العسكري”. صحيح أن ترامب لا يميل كثيراً إلى اعتماد الوسائل العسكرية كخيار لتحقيق أهدافه السياسية، ولا يحبذ العمل على تغيير الأنظمة السياسية بالقوة، ويسعى لتقليص الوجود العسكري الأميركي في الخارج، ويفضل بدلاً من ذلك اللجوء إلى أسلوب الصفقات الكبرى، سواء على الصعيد الدبلوماسي أو على الصعيدين الاقتصادي والتجاري للوصول إلى غاياته، لكن يجب أن لا ننسى أنه لم يتردد سابقاً في اتخاذ قرار باغتيال قاسم سليماني، وربما يجد في الدائرة الضيقة المحيطة به من قد يحاول إقناعه بأن النفوذ الإيراني في المنطقة قد ضعف كثيراً، خصوصاً بعد الضربات الموجعة التي تلقاها حزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية وسقوط نظام بشار الأسد، وبالتالي فإن المصالح الأميركية في المنطقة لم تعد معرضة لمستوى الأخطار نفسه الذي كان يمكن أن تتعرض له من قبل.
ولا شك في أن تقارير عديدة ستوضع على مكتبه تشير إلى أن إيران أصبحت دولة “عتبة نووية”، وبالتالي قادرة فنياً على إنتاج وتصنيع سلاح نووي، وتسعى لإقناعه بعدم الاطمئنان كثيراً إلى وجود فتوى دينية في إيران تحرم تصنيع السلاح النووي، بحجة أن الكثير من الفقهاء ورجال الدين أصبحوا اليوم على استعداد لإصدار فتوى نقيضة تؤكد أن مصلحة إيران باتت تحتم عليها الآن تصنيع السلاح النووي، باعتباره الوسيلة الوحيدة التي تمكنها من حماية أمنها القومي من أخطار كثيرة باتت تتهدده في ظل الأوضاع والظروف الإقليمية والدولية الراهنة.
في مقابلة له مع مجلة “تايم” الأميركية، أجاب ترامب عن سؤال حول احتمالات خوض حرب مع إيران أثناء ولايته المقبلة قائلاً: “أي شيء يمكن أن يحدث، إنه وضع متقلب جداً” .
وفي تصريحات أدلى بها مسؤول عسكري رفيع في “الجيش” الإسرائيلي خلال لقاء مع صحفيين ونقلتها صحيفة “هآرتس” يوم الاثنين الماضي، أكد فيها “أن سلاح الجو الإسرائيلي يستعد لتنفيذ مهمة كبرى تستهدف ضرب منشآت إيران النووية”، بينما أكدت وسائل إعلام إسرائيلية أخرى كثيرة أن “فرصة تاريخية” أصبحت سانحة، وأنها “يجب ألا تقتصر على ضرب المنشآت النووية وإنما التهديد أيضاً بإسقاط النظام الإيراني وإرغامه على التوقيع على اتفاق جديد”. فهل يمكن في ظل أجواء كهذه أن تواصل إيران سياستها الدفاعية المترددة أم أن الوقت قد حان لاتخاذ وضع الهجوم؟
نسخ الرابط تم نسخ الرابط