إضافة إلى المزايا التي يتحلى بها نموذج الإمارات التنموي التي أضأنا عليها في المقال السابق (نموذج الإمارات التنموي 1-2)، وهي الانضباط، والنظام، ومسابقة الوقت لإنجاز المشاريع قبل مواعيد استحقاقها، نستكمل هاهنا بقية هذه الميزات التي تتميز بها عادةً بلدان ومجتمعات جنوب شرق آسيا، والتي لا غنى عن اكتسابها وإدماجها في ثقافة العمل والإنتاج، بل وثقافة الحياة اليومية لأي مجتمع يبغي النهوض واللحاق بركب الدول والاقتصادات الصاعدة:
متابعة آخر ما يحدث في العالم من تفاعلات ومستجدات على صعيد الفكر التنموي التطبيقي والإداري والممارسات الاقتصادية التطبيقية في العالم، أولاً بأول، واستحضارها وسرعة استباق تطبيقها، حتى صار مألوفاً أن تطبيق أي فكرة أو تكنولوجيا، وأول تسويق لسلعة جديدة في العالم، قرينٌ بسوق الإمارات. على سبيل المثال، في 22 يناير 2024، أنشأت الإمارات مجلس الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدِّمة، وبعد أقل من شهرين، وتحديداً في 11 مارس 2024، أعلن المجلس تأسيس شركة «إم جي إكس» “MGX”، وهي شركة استثمار تكنولوجي، تهدف إلى تمكين وتطوير وتوظيف التكنولوجيا، بهدف تحسين حياة الأجيال الحالية والمستقبلية. كما تم إدخال الذكاء الاصطناعي في العمل الحكومي.
كفاءة استخدام الموارد: حيث يتم توظيف وتدوير إيرادات الدولة من النفط في مشاريع استثمارية متجددة، داخل دولة الإمارات وخارجها، من خلال صناديق الثروة السيادية: مبادلة (MUBADALA)، وجهاز الإمارات للاستثمار (Emirates Investment Authority - EIA)، وجهاز أبوظبي للاستثمار
(Abu Dhabi Investment Authority – ADIA). مثال ذلك، ما أُعلن في شهر مايو 2024 من إبرام اتفاقية شراكة بين شركة «الاتحاد للقطارات» الإماراتية وشركة «قطارات عُمان» وصندوق «مبادلة» السيادي الإماراتي، لتنفيذ مشروع شبكة السكك الحديدية العُمانية-الإماراتية. وقد شمل ذلك توقيع اتفاقيات ترسية عقود الأعمال المدنية والبناء، وترسية عقود الأنظمة والتكامل لشبكة السكك الحديدية في البلدين.
تأمين التمويل اللازم للمشاريع بسرعة فائقة: فالحكومة والبنوك ومؤسسات التمويل الخاصة جاهزة ومتحفزة (بلا تردد) للانخراط والمشاركة في المشاريع التي تطرح في سوق التنمية الشامل (لم يعد يقتصر على التجارة والسياحة والصيرفة واللوجستيات، وإنما ارتاد واقتحم صناعة الفضاء والاقتصاد المعرفي الجديد “New knowledge-based economy”، بما في ذلك آخر ما وصلت إليه ثورة المعلومات والاتصالات، من بلوك تشين “Blockchain” (مصطلح يستخدم لوصف عدم القدرة على تغيير البيانات بصورة منفردة). وهو في المحاسبة القانونية عبارة عن دفتر أستاذ “Ledger book” رقمي عام، لامركزي، يستخدم لتسجيل المعاملات عبر العديد من أجهزة الكمبيوتر، بحيث لا يمكن تغيير السجل بأثر رجعي دون تغيير جميع الكتل اللاحقة بإجماع الشبكة. وهو ينهض كقاعدة بيانات موزعة بين نقاط شبكة الكمبيوتر معروفة بدورها الحاسم في أنظمة العملة المشفرة للحفاظ على سجل آمن ولامركزي للمعاملات، ولكنها لا تقتصر على استخدامات العملة المشفرة. حيث تُستخدم سلاسل الكتل لجعل البيانات في أي صناعة غير قابلة للتغيير. وبعد البلوك تشين، جاء الدور على آخر تطور مذهل في عالم الاقتصاد التقني: الذكاء الاصطناعي “Artificial Intelligence” الذي ارتادته الإمارات بسرعة فائقة.
وهناك خصائص أخرى للنموذج التنموي الإماراتي لا تقل أهمية عما سجّلناه آنفاً. وسيتأكد الباحث من ذلك بمجرد تخصيص جزء يسير من وقته لمتابعة ما يجري يومياً من أحداث اقتصادية ليس في دبي وحدها التي ارتبط النموذج باسمها في العقدين الأولين بعد الاستقلال، وإنما في كافة إمارات الدولة السبع: أبوظبي العاصمة، والشارقة، وعجمان، وأم القيوين، ورأس الخيمة، والفجيرة.
نزعم، استناداً إلى ما عرضناه أعلاه، أن باستطاعة الدول العربية، أن تستفيد استفادة قصوى من نموذج دولة الإمارات التنموي، إن هي قررت فعلاً تجاوز رتابة ونمطية أساليبها الإدارية في التنمية الكلية الشاملة، والتي لم تخلق نقلة تنموية فارقة على نحو ما حدث في الإمارات من نقلة تنموية نوعية تشبه إلى حد بعيد تلك الطفرات النوعية التي حققتها بلدان النمور الآسيوية. وتملك بعض الدول العربية فرصة أكثر من مواتية لذلك بحكم العلاقات الخاصة والمميزة التي تربطها بدولة الإمارات قيادةً وشعباً.
هنا، ليس من الضروري الاحتكام إلى صيغة محددة من التعاون بين الجانبين بهذا الصدد، على اعتبار أن الكوادر الوطنية الإماراتية التي واكبت ملحمة البناء في الإمارات والمشاركة في ورشتها، تملك بلا شك رؤيتها الخاصة بكيفية نقل تجربتها إلى الدول الشقيقة. وما على الأخيرة سوى تجهيز كامل طاقاتها الإنتاجية، المادية والبشرية، وإظهارها العملي للجدية والإخلاص والتفاني وعدم السماح للملل والكلل بالتسلل إلى عزيمتها وتصميمها لإنجاز المهمة بنجاح.