تهديد الرئيس المنتخب دونالد ترامب، بفرض تعريفات جمركية ضخمة على البلدان التي تحاول الابتعاد عن «الدولار الأمريكي القوي» يسلط الضوء عن غير قصد على التناقض المستعصي في قلب السياسة التجارية والاقتصادية الأمريكية.
لقد صرح ترامب مراراً وتكراراً بأنه يريد تعزيز القدرة التنافسية للولايات المتحدة وتقليص عجزها التجاري الهائل، والذي يُلقي فيه باللوم على الممارسات الاقتصادية غير العادلة للدول الأخرى.
ولكن كيف يمكنه أن يفعل ذلك مع الحفاظ في الوقت نفسه على قوة الدولار ومكانته التي لا مثيل لها كعملة احتياطية عالمية، والتي ساعدت لعقود من الزمن على تغذية القوة الشرائية للمستهلكين الأمريكيين؟
إن أهدافه المتمثلة في توسيع إنتاج الطاقة المحلية، وتعميق مكانة البلاد بصفتها مركزاً تكنولوجياً رائداً في العالم، وهي جزء من تركيبة شعار «أمريكا أولاً»، يمكن أن تؤدي، مع تساوي كل شيء آخر، إلى ارتفاع سعر صرف العملة المحلية. ولكن هذا من شأنه أن يتعارض مع المفهوم الآخر للشعار، وهو تعزيز التصنيع الأمريكي.
ولا يتعلق الأمر بمعضلة حزبية، فقد أنفق الرئيس جو بايدن تريليونات الدولارات على مدى السنوات الأربع الماضية في محاولة لتعزيز التصنيع في الولايات المتحدة، وإنتاج الطاقة الخضراء، وغيرها من القطاعات الرئيسية. وفي الوقت نفسه، واصل الدولار ريادته العالمية وصموده، وهو ما أفقد الصادرات الأمريكية جاذبيتها.
وكانت نائبة الرئيس كامالا هاريس، لتواجه نفس المعضلة لو فازت في الانتخابات الرئاسية الشهر الماضي.
لكن الأمر صعب بشكل خاص بالنسبة لترامب، الذي كان أكثر صراحة في انتقاده لدول مثل الصين والمكسيك وكندا التي تدير فوائض تجارية ضخمة مع الولايات المتحدة، وكان أكثر تفاؤلاً أيضاً بشأن قدرته على إصلاح هذه الاختلالات.
إن ضعف الدولار وانخفاض أسعار الفائدة سيكونان من أكثر الأدوات وضوحاً للقيام بذلك. ولكن كما أوضح في أحد منشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي، بأنه يريد أيضاً حماية هيمنة الدولار العالمية والحفاظ على قيمته النسبية.
لقد عانت الولايات المتحدة عجزاً تجارياً لمدة 50 عاماً تقريباً، حيث كانت تستورد باستمرار أكثر مما تصدر.
وكان التصنيع يتراجع كنسبة من الاقتصاد منذ فترة طويلة تقريباً، وخاصة منذ انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001.
وبلغ العجز التجاري الأمريكي العام الماضي نحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وعلى الرغم من أنه أقل بكثير من الرقم القياسي البالغ 5.7% من الناتج المحلي الإجمالي الذي حدث في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لكنه لا يزال كبيراً. أما من حيث القيمة الاسمية، التي يركز عليها ترامب أكثر، فالعجز بات أكبر بمراحل، حيث بلغ 773 مليار دولار.
ويتوافق العجز مــع مكانة الدولار بصفته عملة بـــارزة فـــي التجـــارة العالمية، وتداول الأسواق المالية، واحتياطيات النقد الأجنبي الدولية. ولم تستطع أي عملة أخرى الاقتراب من هيمنة الدولار، حتى مع تآكل حصته في احتياطيات النقد الأجنبي العالمية في السنوات الأخيرة.
في غضون ذلك، يقابل العجز التجاري فائض في حساب رأس المال الأمريكي، حيث استثمرت الصين وغيرها من الدول فوائضها في السندات والأسهم الأمريكية. وإذا انخفض العجز التجاري، فسينخفض معه فائض حساب رأس المال والطلب المصاحب على الأصول الأمريكية في الخارج. أما إذا تساوت كل العوامل الأخرى، فإن هذا من شأنه أن يفرض ضغوطاً تصاعدية على عائدات السندات وأسعار الفائدة.
وفــي إشــارة إلـــى العــلاقـــة التكـــافليــة بين العجز التجاري الأمريكي وفائض حساب رأس المال، أشار مايكل بيتيس، وهو زميل بارز في مركز كـــارنيغـــي الصين، إلى أن الولايات المتحدة لا تستطيع خفض عجزها التجاري وزيادة الهيمنة العالمية للدولار في الوقت نفسه، لأن هذين الأمرين يفرضان ظروفاً «متناقضة تماماً».
فإعادة التوازن إلى الاقتصاد العالمي بحيث تدير الولايات المتحدة عجزاً تجارياً أصغر وتتمتع بقطاع تصنيع أقوى، فيما تزيد الصين وغيرها من الدول المصدرة الصافية الكبيرة من استهلاكها المحلي وتُخفّض فوائضها التجارية، سيتطلب في نهاية المطاف تعديلات كبرى في سعر الصرف العالمي.
وقد لا يرضى المستهلكون الأمريكيون عن هذه النتيجة، بعد أن استفادوا بشكل هائل في العقود الأخيرة، مع تسبب العجز التجاري في جذب السلع الرخيصة من الخارج، من ملابس وأجهزة كهربائية وغيرها من ضرورات الحياة.
وبحسب جو بروسويلاس، كبير الاقتصاديين في شركة «آر إس إم»: «إنك تطلب ضِمناً من المستهلكين الأمريكيين قبول خسارة القدرة الشرائية والاستعداد لدفع المزيد مقابل السلع المستوردة من أجل تقديم الدعم لقطاع التصنيع»، وهذه معادلة صعبة. ونظراً للدور الذي أدته القدرة الشرائية للأمريكيين أنفسهم في الانتخابات الأخيرة، فمن المرجح ألاّ يرغب الرئيس القادم في حلها.