د. لويس حبيقة*
هنالك من يؤمن بقوة الأسواق ويقبل نتائجها أياً كانت. قوة الأسواق هي كغيرها من العوامل التي تحرك النتائج العامة في المجتمعات، أي في توافر وأسعار السلع والخدمات. قوة الأسواق ليست عقيدة يجب قبولها أو رفضها، وبالتالي يجب وضع الأطر المناسبة لعملها. لا يمكن ترك كل القرارات للأسواق التي يمكن أن تضرّ بالاقتصاد العام وبالمصالح القطاعية وحتى بالأخلاق. حرية الأسواق مهمة وضرورية ضمن ضوابط تحدّ من تأثيراتها السلبية في النمو والتنمية.
فالأسواق تحدد النتائج الاقتصادية، لكنها لا تهتم بالتأثيرات الإنسانية والاجتماعية لتلك النتائج، وبالتالي هنالك دور كبير للقطاع العام يجب أن يقوم به. تقوم الأسواق بواجباتها، وعندما لا يحصل ذلك تقع الأزمات في كل القطاعات منها المالية. ماذا كانت نتائج ترك الأسواق تعمل من دون ضوابط خلال عقود طويلة ماضية في كل الدول وأهمها في الاقتصادات الناضجة كالولايات المتحدة الأمريكية؟ حصلت أزمات اقتصادية مالية ومصرفية دورية ضربت النمو وأضرت بالفقراء، وسببت العديد من الحروب التي بنيت على الظلم في الاقتصاد.
سياسات الرئيس ترامب الحالية من ضرائب جمركية إضافية على الحلفاء قبل الخصوم ستضرّ بالأسواق وبالاقتصاد العالمي، وستشعل حرباً تجارية دولية غابت عن السمع منذ الحرب العالمية الثانية. إجراءات ترامب ستضر أيضاً بالأسواق الرقمية والمشفرة التي تبناها دون تفسير، بل فقط للتحدي ضد التقليديين أو المحافظين الذين يدعون دائماً إلى التصرف بمنطق وهدوء، خاصة في ظروف دولية صعبة. فالأضرار لن تقتصر على كندا والمكسيك والصين ولاحقاً أوروبا، بل ستُسيء إلى المواطن الأمريكي ومعيشته.
أما الأزمات المصرفية، فتضرب عموماً سلامة الودائع وتقلق المواطن والشركة. تضرب الأزمات أيضاً استمرارية القروض الضرورية لتمويل الاستثمارات وبالتالي تحقيق النمو. يتشرذم النظام الاقتصادي العالمي اليوم ليس فقط بسبب الحروب، وإنما بسبب القرارات الخاطئة التي اتخذت وتتخذ من قبل حكومات العالم وتؤدي إلى سيطرة المتطرفين على الحكم في أعرق الديموقراطيات. أما خروج بريطانيا من الوحدة الأوروبية فتمّ بقرار شعبي، لكن الأكثرية تعي اليوم أن القرار كان خاطئاً، وأن الرجوع إلى الوراء ليس ممكناً بل بالتأكيد ليس سهلاً. هذا الخروج البريطاني أضر بالوحدة الأوروبية وببريطانيا نفسها.
أما توسع مخاطر الأسواق المالية والتهور في الاستثمارات فسبّبا إفلاسات كبرى في المصارف والمؤسسات المالية والشركات التجارية. ارتفعت ديون الشركات كما المخاطر، وبالتالي يصعب تسديد هذه الديون مع فوائدها. انخفضت ثقة المواطن والشركات بإدارات الدول خاصة بسبب الفساد الكبير المستشري في القطاعات العامة. نسيت إدارات الدول قيمها المعلنة، وأساءت إلى مواطنيها في تقديم الخدمات الاجتماعية النوعية وتمويلها.
ما الذي يجب تحقيقه لعودة الاستقرار إلى الاقتصاد العالمي؟ يجب إعادة التوازن إلى العلاقة بين المصارف والأسواق. يجب إعادة التوازن إلى العلاقة بين الأسواق والقطاع العام، إذ لكل قطاع دوره. يجب أيضاً إعادة التوازن إلى العلاقة بين رأس المال الاقتصادي ورأس المال الاجتماعي، أي عملياً عودة القيم إلى المجتمعات.
* كاتب لبناني