جاي بيلوسكي*
مع حلول عام 2024، هيمنت فكرة «التفوق الأمريكي» على الأسواق المالية، حيث تفوقت الولايات المتحدة على باقي دول العالم من حيث الأداء الاقتصادي والأسواق المالية. لكن مع تبدل التقويم السنوي، يبدو أن الوقت قد حان لتجاوز هذه النظرة الجغرافية الضيقة والنظر في المنافسة الإقليمية الكبرى التي من المتوقع أن تعيد تشكيل الاقتصاد العالمي في السنوات المقبلة.
قد نكون في خضم دورة نمو عالمي طويلة الأمد مدفوعة بتنافس مكثف في مجالات الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الخضراء، والأمن بين ثلاث مناطق رئيسية: الأمريكيتين، وآسيا، وأوروبا. وهذا ما يُشار إليه بمفهوم «العالم الثلاثي الأقطاب».
وقد شهد الاقتصاد العالمي تحولاً نحو تكامل إقليمي متزايد منذ أواخر العقد الثاني من القرن الحالي، عندما توقفت العولمة بفعل الأزمة المالية العالمية وتجربة المملكة المتحدة الصعبة بعد استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016. كما أعطت جائحة «كوفيد-19» دفعة قوية لهذا الاتجاه، إذ كشفت عن هشاشة سلاسل التوريد العالمية وأهمية تأمين الإمدادات الحيوية كضرورة للأمن القومي.
وهذا التحول دفع الشركات الأمريكية نحو تقصير سلاسل التوريد الخاصة بها، حيث ارتفعت نسبة الشركات التي تخطط لهذا التغيير من 63% في عام 2022 إلى 81% في عام 2024، وفقاً لمسح «باين ريسيلينسي».
ويعني هذا التوجه نحو التكامل الإقليمي أن العالم قد يشهد سباقاً بين هذه المناطق الثلاثة لتطوير التكنولوجيا الخضراء، والذكاء الاصطناعي، والأمن. ومن المتوقع أن تدعم كل منطقة السياسات الصناعية لتشجيع الاستثمار في هذه المجالات، مثل مصانع أشباه الموصلات، ومصانع البطاريات والمركبات الكهربائية، ومبادرات الاستعداد الصناعي الدفاعي.
وتقود الصين هذا السباق منذ فترة طويلة من خلال سياساتها الصناعية المتعلقة بالتكنولوجيا الخضراء، حيث استحوذت على نحو ثلث الاستثمارات العالمية في الطاقة النظيفة عام 2023، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية. وبفضل هذا التوجه، أصبحت الصين مهيمنة على قطاعات الطاقة النظيفة مثل خلايا الطاقة الشمسية والبطاريات والمركبات الكهربائية.
أما الولايات المتحدة، فقد دفعت نحو سياسة صناعية مشابهة تحت إدارة جو بايدن من خلال تشريعات كبيرة مثل «قانون الرقائق والعلوم» الذي خصص 53 مليار دولار لدعم تصنيع أشباه الموصلات، و«قانون البنية التحتية»، الذي أعلن عن تمويل مشروعات بقيمة 500 مليار دولار، و«قانون خفض التضخم»، الذي حفز استثمارات ضخمة في التكنولوجيا الخضراء.
وتواجه أوروبا تحديات كبيرة في هذا السباق، حيث أصبحت ألمانيا، التي كانت القاطرة الاقتصادية للقارة، تعاني ركوداً اقتصادياً وصعوبات في قطاع السيارات. ومع ذلك، تملك ألمانيا مساحة مالية واسعة للتحرك بفضل نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي التي تبلغ نحو 63%، وهي أقل بكثير من المتوسط الأوروبي.
ويشير هذا التحول نحو «عالم ثلاثي الأقطاب» إلى أن هناك عدة محركات للنمو العالمي بعيداً عن الولايات المتحدة. بينما هيمنت الأسواق الأمريكية على الساحة منذ عام 2009، فقد يؤدي أي تغيير طفيف في توقعات المستثمرين أو الأساسيات الاقتصادية إلى إعادة التفكير في التركيز العالي على الأسواق الأمريكية.
وفي المقابل، تتحرك الصين وأوروبا بوتيرة سريعة لتعزيز تنافسيتهما. وقد أطلقت الصين حزمة من السياسات النقدية والمالية لتحفيز اقتصادها، بينما قد تلجأ ألمانيا إلى التحفيز المالي للتعامل مع الركود المحلي.
وفي النهاية، ومع دخول العام الجديد، قد يجد المستثمرون أن الولايات المتحدة ليست اللاعب الوحيد في الأسواق العالمية، وأن هناك فرصاً كبيرة في مناطق أخرى.
*مؤسس ومستشار عالمي في شركة «تي بي دبليو أدفايزوري» ومقرها نيويورك (رويترز)