مارلين سلوم
فيلم مختلف، ومن لا يحب الاختلاف في الأعمال السينمائية وينتظر بشغف أن يشاهد فيلماً يخرج عن الروتين ويقدم فكرة جديدة خصوصاً أن بطله الأول توم هانكس؟ عشاق هذا النجم يثقون باختياراته وبأنه وصل بنضجه إلى مرحلة انتقاء الأعمال المميزة بعناية، فيلم «هير» أو «هنا» المعروض حالياً في الصالات، من هذه النوعية المختلفة، لكنه لن يكون جماهيرياً، لأن مخرجه لم يكتفِ بتقديم فكرة مميزة وينطلق بها بفكرة إخراج أيضاً مميزة، بل «شطح» من إطار التميز وكسر الروتين إلى تشتيت انتباه المشاهد بقفزاته الزمنية وبلقطات تحتاج إلى تركيز شديد كي يجيد المرء ربط الشخصيات ببعضها بعضاً وربط الأزمنة والأحداث ببعضها أيضاً، لذلك هو فيلم كاد أن يكون رائعاً لولا بعض النقاط.
104 دقائق تتسمر فيها على مقعدك وأنت مبهور ببداية فيلم يبشر بأنه استثنائي، فالمخرج روبرت زيميكس وضع صورة لمنزل لا نرى منه سوى صالة ونافذة عريضة تطل على شارع ومنزل ضخم يشبه القصر، نفس المشهد، الكاميرا ثابتة، الأشخاص يتبدلون، قطع أثاث الصالة تظهر أحياناً وتختفي وتتبدل أحياناً، النافذة كأنها شاشة تتغير خلفها المشاهد الطبيعية فنعرف منها تغير الأزمنة.. تفهم أن الفيلم يتحدث عن المكان، عن هذا البيت تحديداً وتتوقع عمقاً فلسفياً للقصة وأن الأماكن تبقى على حالها مهما تبدل الزمن وسكانها، لكن زيميكس يبقى حاصراً الفكرة في إطار ضيق ويلف ويدور حول النقطة الواحدة وأنت تنتظر «ماذا بعد؟» و«ما الهدف من القصة؟» لتجد في النهاية أنك بقيت حائراً فلا الفيلم سيئ ولا وصل بك إلى المتعة، وللأسف كسر حالة المشاعر التي كادت تربطك بالشخصيات وبالعمل لكثرة تنقّله بين الماضي والماضي الأبعد والحاضر.
الرواية المصورة
روبرت زيميكس استند إلى التي كتبها ريتشارد ماكجواير عام 2014، وأعاد كتابتها سينمائياً مع ريتشارد ماكغواير وإيريك روث، بطل الرواية اسمه مثل مؤلفها ريتشارد، ويمكن القول إن المكان هو بطل رئيسي أيضاً، حيث توضع الكاميرا في مكان واحد للتركيز على جميع الأحداث التي وقعت في ذلك المكان بالذات على مر التاريخ، يعتمد المخرج على الإطار في كل مشاهده، إطار داخل إطار للانتقال من فترة زمنية إلى أخرى، ومن تبدل الوافدين على المكان وسكانه. من صالة البيت، يعود بنا المخرج إلى الأرض نفسها كيف كانت بوراً في زمن بعيد، الديناصورات والبراكين والحمم، ثم حياة الأمريكيين الأصليين إنسان يطارد الغزلان من بعدها كيف تم بناء البيت، منزل ابن بنيامين فرانكلين المنفصل عنه، أسرة لا نعرف عنها سوى القليل. مقابله يشيد بيت في العام 1900، ومن غرفة المعيشة نرى كيف أصبح منزل آل يونج (بول بيتاني) وروز يونج (كيلي رايلي) نبدأ في مراقبة حياة بعض أولئك الذين يعيشون داخل جدرانها.
في عشرينيات القرن العشرين، نرى بولين هارتر (ميشيل دوكري) القلقة باستمرار خوفاً من احتمال وفاة زوجها المغامر جون (جويليم لي) في الطائرة الحديثة التي يقودها، ويبدو أنها شغفه الوحيد في حياته، والذي يتوفى في النهاية بسبب الإنفلونزا لا بحادث طائرة. ومن ناحية أخرى، نرى في أربعينيات القرن العشرين زوجين سعيدين متفاهمين (ديفيد فلين وأوفيليا لوفيبوند) وهما يعملان على تطوير أحد أعظم الابتكارات في القرن العشرين، كرسي يتمدد.
تطور الأحداث
ينتقل بنا الفيلم إلى مراحل تمتد لنحو 60 عاماً، تمتلك عائلة يونج المنزل، تم شراؤه بعد فترة وجيزة من نهاية الحرب العالمية الثانية من قبل الجندي العائد آل يونج (بول بيتاني) وزوجته روز (كيلي رايلي)، وفيه أنجبا ثلاثة أطفال أكبرهم ريتشارد وينادونه ريكي. ريتشارد يجسده 4 ممثلين أطفال وشباب قبل أن يصبح في سن ال 18 عاماً حيث يجسده النجم توم هانكس آخذاً شكل مراهق لكن بنفس صوت هانكس المعروف، يحلم بأن يكون فناناً لكنه سرعان ما يفاجأ بخبر حمل حبيبته في المدرسة الثانوية مارجريت (روبن رايت التي تتغير هي أيضاً ملامحها لنرافقها من مراهقتها حتى النهاية). يتزوج ريتشارد ومارجريت في نفس غرفة المعيشة ويعيشان مع والديه وإخوته، ويحصل ريتشارد على وظيفة في التأمين لتوفير احتياجات أسرته، ويتخلى عن حلمه في الرسم، وحلمه وزوجته في الانتقال للعيش في بيت خاص بهما.
تمر السنون، فيشعر الجمهور بأنه شاهد على مرحلة من حياة أسرة يونج وما أحاط بها من أحداث تمر سريعاً بالسرد والحوار، مثل حرب هاربور والتحاق شقيق ريتشارد بالجيش.. تفاصيل يومية كثيرة تمر كما يحصل في حياة كل البشر، الميلاد والموت والحب والاكتئاب والخيانة وعدم الرضا الزوجي، والتعامل مع الوالدين المسنين..
الإخراج مدهش في بداية الفيلم، لكن حين يتكرر ويعتمده المخرج طوال الأحداث، ندخل في متاهة، من سكن في هذا المنزل قبل من؟ أحداث تمر ثم نعود إلى الوراء مع شخصيات أخرى عاشت في نفس المكان.. الأهم أننا نصل إلى ما بعد منتصف الفيلم ونحن نمنّي النفس بفهم ما يريده المؤلف وما يريده المخرج أيضاً، واللافت أن من بين كل تلك الشخصيات التي تمر هنا، عائلة من الأمريكيين السمر أمّ وأب وابنهما يشرحان له كيف يتصرف إذا استوقفته سيارة الشرطة أثناء القيادة، وكيف عليه إظهار يديه طوال الوقت والتعامل بهدوء.. إشارة إلى الظلم الذي تعرض له شعبهم من الأجهزة الأمنية أيام التمييز العنصري.
التكنولوجيا المتطورة تصيب الصناعة السينمائية أحياناً بالضرر، كما حصل في هذا الفيلم حيث أراد المخرج استغلال التقنيات بتصغير توم هانكس وروبن رايت سناً، فأخفى تجاعيد وجهيهما دون اللجوء إلى الماكياج وتغيير الملامح، لكن النتيجة جاءت عكسية تماماً، التقنيات أخفت تجاعيد توم هانكس فذهبت تعابير وجهه وانفعالاته معها، ليبدو وشريكته رايت كممثلين من بلاستيك، علماً أن الثنائي أدّيا المطلوب منهما على أكمل وجه تمثيلاً، لتقف التكنولوجيا حاجزاً بين انفعالاتهما وإحساس الجمهور بهما، علماً أن زيميكس استخدم هذه التقنية طوال الفيلم من أجل اللعب بملامح البطلين يصغرهما كثيراً ويكبّرهما أيضاً كثيراً وفق تغير المرحلة العمرية. وفيه يقدم توم هانكس دوراً مختلفاً وأداء متميزاً ولكنه ينتقص من رصيده ولا يضيف إليه.
تجربة ونظرة فلسفية
الفيلم ليس سيئاً ولا ممتازاً، تشعر بأنك عشت معه تجربة فنية مختلفة، نظرة فلسفية لم تكتمل، رؤية إخراجية بالغ فيها زيميكس فانقلبت إلى الضد، فحصرنا في مساحة ضيقة وكلنا أمل أن تتسع عدسة الكاميرا لنرى العالم من الجهة الأخرى لهذه النافذة والغرفة، لكن ذلك لا يتحقق سوى في آخر مشهد من الفيلم، حيث يقرر زيميكس الاستدارة لنرى المطبخ المطل على غرفة المعيشة، ثم يخرج بنا لنرى المنزل لأول مرة من الخارج، وكل المنازل المجاورة له والشارع الذي ينبض حياة والمارة والسيارات فيه ليعطي المشاهد إحساساً بآنيّة مايشاهده، دورة حياة طبيعية تشعرنا وكأننا خرجنا من عنق الزجاجة أخيراً، وأن البطل وزوجته تحررا أيضاً من هذه المساحة الضيقة والمتاعب المتعددة.