13 فبراير 2025, 8:29 صباحاً
منذ انطلاق الحرب التي مزقت أوكرانيا قبل ثلاث سنوات، شهدنا تقلبات إستراتيجية غير مسبوقة في السياسة الأمريكية. في خطوةٍ مفاجئة، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ دعمه لأوكرانيا، بينما اتسمت تصريحات إدارة ترامب بتقديم تنازلاتٍ مبكّرة تجاه روسيا، مما أثار جدلاً واسعاً وأدّى إلى تساؤلاتٍ حول مستقبل الصراع. وهذه التحركات تعكس تغييراً جذرياً في مسار السياسة الخارجية الأمريكية، وتطرح تساؤلات حول ما إذا كانت هذه التنازلات ستُسهم في إنهاء الحرب أم ستضع أوكرانيا في موقفٍ تفاوضي ضعيف على المدى الطويل.
آفاق جديدة
فخلال مكالمات هاتفية منفصلة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؛ والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي؛ دعا ترامب؛ إلى بدء مفاوضات سلام لإنهاء النزاع، معتبراً أن التوصل إلى اتفاقٍ سلمي سيسهم في وقف مزيدٍ من الوفيات والمعاناة. وأكَّد ترامب؛ في تصريحات لعددٍ من المسؤولين الأمريكيين، أن العودة إلى حدود أوكرانيا قبل عام 2014، وهي الحدود التي كانت سائدة قبل ضم روسيا للقرم، أصبحت الآن فكرة غير واقعية، بينما استبعد أيضاً إمكانية منح أوكرانيا عضوية حلف شمال الأطلسي كجزءٍ من حل النزاع. مثل هذه التصريحات أظهرت ميلاً واضحاً نحو تقديم تنازلاتٍ تُسبَق بدء المحادثات، ما دفع بعض المسؤولين، بمَن فيهم السفير الأمريكي السابق مايكل مكفول؛ إلى انتقاد الإستراتيجية بقوة، معتبرين أنها قد تثبت سابقة خطيرة في تقديم تنازلاتٍ لمنافس إستراتيجي دون مقابلٍ، وفقاً لـ"رويترز".
وتزامنت هذه الخطوة مع مقترحات لإبرام صفقة تبادل بين الموارد المعدنية الأوكرانية والتمويل الأمريكي، في محاولةٍ لتوفير "درع أمنية" لأوكرانيا بعد انتهاء الحرب، فالرئيس ترامب أشار إلى إمكانية استثمار الموارد الطبيعية في دعم المساعدات العسكرية والاقتصادية لكييف، في إطار صفقة قد تصل قيمتها إلى مئات المليارات من الدولارات. وفي الوقت الذي تُعد فيه هذه المبادرة بمكانة خطوة إيجابية لضمان إعادة الأموال الأمريكية التي تمّ ضخها في دعم أوكرانيا، يبقى التساؤل قائماً حول مدى تحقيق التوازن بين تأمين الدعم المالي وسلامة الأراضي الأوكرانية.
آفاق تفاوضية
وأظهرت التصريحات الصادرة عن مسؤولين أمريكيين أن إدارة ترامب اختارت نهجاً جديداً يقوم على تقديم تنازلات مُسبقة لروسيا، معتبرةً أن ذلك يمثل "تنازلاً عن الواقع" يهدف إلى دفع روسيا نحو طاولة المفاوضات. وفي هذا السياق، صرح بوتين مراراً بأن موسكو منفتحة على محادثات السلام، لكن مع التأكيد على تحقيق أهدافها من خلال ضمان الحياد ونزع السلاح من أوكرانيا. هذا الموقف يجسّد التحدّي الحقيقي الذي يواجه القيادة الأوكرانية، إذ يُطالب النظام في كييف بالتنازل عن بعض الأراضي والحصول على ضمانات أمنية قوية، فيما يرى بوتين أن هذه التنازلات ستثبت قدرته على تحقيق أهدافه الإستراتيجية دون تغيير جذري في موازين القوة.
ورغم ما يُظهره ترامب من دعمٍ لفظي لأوكرانيا، إلا أن تصريحات وزارة الدفاع الأمريكية التي أفادت بعدم إمكانية مشاركة القوات الأمريكية في أيّ وجودٍ أمني داخل أوكرانيا تُثير مخاوف من انسحاب الدعم العسكري المباشر. ونُقلت آراءٌ من قِبل مسؤولين أوروبيين مثل السفير الأمريكي السابق، الذي أشار إلى أن تقديم التنازلات لروسيا دون الحصول على مقابلٍ واضحٍ سيضع أوكرانيا في موقف ٍتفاوضي ضعيف، مما يفتح الباب أمام تحقيق مكاسب إستراتيجية لروسيا على المدى الطويل. في الوقت نفسه، يُشير تحليل المسؤولين إلى أن هذا التحوُّل في السياسة الأمريكية قد يكون بمنزلة إشارة لبداية مرحلة جديدة من العلاقات الدولية، حيث تسعى موسكو إلى استغلال هذه التنازلات لتعزيز نفوذها في المنطقة.
تقويض المبادئ
ويتضح أن السياسة الأمريكية الحالية، على الرغم من تأكيد ترامب دعمه لأوكرانيا، قد تفضي إلى إعادة رسم خريطة التحالفات الإقليمية والدولية. إذ يُنظر إلى هذا النهج على أنه محاولة لتحقيق سلامٍ سريعٍ، لكن الثمن قد يكون تقويض المبادئ الأساسية للسيادة الوطنية وضمان الحقوق الأوكرانية. وأشار بعض المحللين إلى أن تقديم التنازلات قبل بدء المفاوضات قد يُفهم على أنه ضعفٌ إستراتيجي قد يغيّر قواعد اللعبة في العلاقات الدولية، خاصةً في ظل التوترات القائمة مع روسيا. تُعد هذه الخطوة بمنزلة اختبارٍ حقيقي للقدرة الأمريكية على الجمع بين مطالب الحلفاء والتفاوض مع خصمٍ قوي مثل موسكو.
ومع تزايد المخاوف من أن هذه السياسة قد تؤدي إلى استمرار النزاع بدلاً من حله، يبقى السؤال قائماً: هل ستثمر هذه الخطوات عن تحقيق سلامٍ دائمٍ في أوكرانيا أم ستظل الأراضي والحقوق الأوكرانية رهينة لمصالح سياسية إستراتيجية؟
في الختام، يشكّل هذا التحوُّل في السياسة الأمريكية تحدياً كبيراً للمشهد الدولي، حيث يجب على الأطراف المعنية إعادة النظر في مواقفها، وتحديد الخطوات القادمة لضمان سلامٍ مستدامٍ، دون التفريط في الحقوق الأساسية أو التنازل عن مبادئ السيادة الوطنية.