الأحد 9 فبراير 2025 09:18 مساءً
كُنت أراه كعصفور برى يُنقّر كل صباح فروع شائخة لشجرة عتيقة، بصبر وإناة ورضا، يرسم جمالاً ساحراً، وسحراً جميلاً.
مُصطفى بيومى الذى سبقنا إلى الضفة الأخرى كان مُبدعا فريداً، وإنساناً رائعاً، لا ينشغل سوى بالكتابة والتأمل، يتحاشى جلسات النميمة، ويعتزل شلل الثقافة مُكرسًا جل وقته لصناعة قيمة تبقى خالدة ونافعة لأجيال أخرى تأتى خلفنا، وفق سُنن الحياة.
أنتج الكاتب الموسوعى أكثر من ثمانين كتاباً تحكى لنا كُل شىء فى الأدب المصرى، شخوصا، وأعمالًا، وموضوعات، حتى تكاد تتعرف على التاريخ غير المدون للمصريين من خلال دراساته وكتبه القيمة. استأثر نجيب محفوظ وحده بكتب عديدة كتبها الراحل الجميل عنه لنتعرف منها عن رأيه فى كرة القدم، الأحزاب المصرية، التوجهات السياسية، الحكام، الموسيقى والطرب، العمل الوظيفى، هموم الناس، الدين والتدين، وغيرها.
عرفت الرجل إبان مشروعه العظيم الصادر فى سلسلة كتب صغيرة لرد الاعتبار لرواد الاستثمار قبل ثورة يوليو من أمثال السيد ياسين، وسمعان صيدناوى، ومحمود أبو الفتح، وروزاليوسف. خطفتنى الفكرة بتفردها، فتابعتها وأصررت على التعرف على المؤلف ومناقشته. كان مصطفى بيومى وقتها يعمل مستشارا ثقافيا للدكتور محمود محيى الدين، عندما كان وزيرا للإستثمار، وبدت لى فكرته الأساسية بأن مصر لديها تراث تاريخى عظيم من التعددية وحرية الاقتصاد والفكر قبيل ثورة يوليو، وأن هذا التراث قابل للبعث مرة أخرى.
لفت نظرى وقتها بساطة المؤلف وتواضعه وحرصه الشديد على القيمة والإتقان واهتمامه بالابداع، وتبادلنا الكتب وتصادقنا لنتشاور فيما نكتب، ونتحاور بشأن الأفكار والنصوص سعيا إلى الأجمل والأفضل. ومن هُنا قرأت مسودات معظم أعماله الابداعية قبل نشرها، وبالمثل قرأ أعمالى بمحبة واهتمام وصدق؟.
ورغم مرضه الذى طال ومعاناته التى امتدت لسنواته الأخيرة ظل ناصع البياض طيبة ونقاء، وحمل طاقة إبداع وكتابة رائعة لم تفتر أبدا. ورغم هموم، ومشكلات جمة، وأحزان وطنية ومجتمعية، ومحن وصعاب، واصل المقاومة بقلمه مُعتزا بكرامة المبدع الحقيقى، ومنتصرا بالاستغناء النقى.
انتصر مشروعه الفكرى والنقدى لقيم التسامح، والتعددية، وقبول الآخر، ورفض التدين الشكلى، المظهرى، الانتهازى، المُسيس، ونبذ الاستبداد السياسى، والفردية، واستعلاء الحكام على المحكومين، ولا يُمكن أن ننسى عبارته الأثيرة بأننا نعيش منذ ولدنا فى ظل حالة طوارئ لا تنقضى أبدا.
رأى أن جمال عبدالناصر، وزمنه، ورجاله، وسياساته أوقفوا صعود المجتمع المدنى المصرى، وردوه إلى عصور وسطى من نفاق السلطة، والانتهازية، والاتجار بالدين.
لم ينل مصطفى بيومى التكريم المستحق من مؤسسات الدولة، ولم يحظى الرجل بالمساندة والدعم المفترض من صروح الثقافة وكياناتها، وهو الذى مزج التاريخ بالأدب ليستقرئ لنا سمات الشخصية المصرية وتطورها من عصر إلى عصر. لم يُحقق الرجل ثروة مالية تفى بحياة هانئة ورعاية صحية جيدة وهو الذى جنت دور نشر عديدة عائدات ضخمة من توزيع مؤلفاته.
بدا الرجل راضياً بمقولة فولتير الشهيرة «لا تحزن إن لم تنل ما تستحق من تقدير.. فيكفيك أنك تستحق»، ليواصل إبداعاته مبتسماً وسعيداً بمحبة الناس واحترامهم.
وفى وداعه بكى المحبون، وترحموا عليه، وأعادوا نشر ما كتب. فما مات مَن كتب جميلًا.
والله أعلم