السبت 21 ديسمبر 2024 01:12 مساءً
يُشكل التعليم الرقمي في العالم العربي مُحركاً أساسياً لتحقيق قفزة نوعية في المنظومة التعليمية، وفتح آفاق جديدة للتنمية المستدامة. استدامة التحولات التنموية تتطلب تهيئة البيئات الحاضنة؛ فبقدر ما يقدم التعليم الرقمي من إمكانات هائلة، إلا أن التحديات المرتبطة بالبنية التحتية الرقمية، والثقافة المجتمعية، وجودة المحتوى التعليمي العربي، ما زالت تمثل عوائق يجب معالجتها بعمق وحزم. ومن هنا تأتي الحاجة إلى إعادة النظر في الأطر الاستراتيجية التي تؤطر عملية التحول الرقمي التعليمي كجزء من استراتيجيات التنمية الوطنية، وأجندات بناء مجتمعات معرفية قائمة على العدالة في الوصول إلى التعليم.
يشير الواقع الحالي إلى فجوة رقمية بارزة في عدد من الدول العربية، ما يعني أن التحول نحو التعليم الرقمي لا يزال بعيداً عن متناول قطاعات كبيرة من الطلاب، لا سيما في المناطق الريفية والنائية. وتشير الدراسات إلى أن حوالي 40% من السكان في بعض الدول العربية يعانون من نقص في توفر الإنترنت أو ضعف سرعته، مما يحد من فرصهم في الاستفادة من الخدمات التعليمية الرقمية. ولتجاوز هذا التحدي، فإن الحكومات تحتاج إلى إطلاق مبادرات استثمارية وطنية لتطوير البنية التحتية للاتصالات، مع التركيز على توفير الإنترنت عالي السرعة بأسعار ملائمة تضمن عدالة الوصول وتكافؤ الفرص التعليمية. وهذه الخطوة يمكن أن تحقق متطلبات التعليم الرقمي، وتسهم أيضاً في تحسين جودة الحياة العامة والارتقاء بمنظومة الاقتصاد الرقمي الوطني على المدى الطويل.
ومن جهة أخرى، يُشكل نقص المحتوى التعليمي العربي رقماً صعباً في معادلة التعليم الرقمي. فبينما يشهد العالم زيادة كبيرة في الموارد التعليمية الرقمية المُتاحة، لا يزال المحتوى العربي مُتواضعاً من حيث الكم والنوع، إذ لا تتجاوز نسبة المحتوى الرقمي العربي 3% من المحتوى العالمي، وهو ما يشير إلى ضعف في تلبية احتياجات المتعلمين الناطقين بالعربية. ولتحقيق تغيير حقيقي، ينبغي على مؤسسات القطاعين العام والخاص الاستثمار في إنتاج محتوى تعليمي يتناسب مع الثقافة المحلية ويغطي التخصصات المطلوبة بأسلوب جاذب ومواكب للتطورات التقنية. هذا الاستثمار في إنتاج محتوى عربي لا يمكن اعتباره مجرد واجب أخلاقي، بل كخطوة استراتيجية لتحقيق التحول الشامل في المنظومة التعليمية العربية وجعل التعليم الرقمي خياراً جاذباً ومتكاملاً.
كما أن دعم الثقافة المجتمعية للتحول نحو التعليم الرقمي يُعد عنصراً حيوياً لضمان تقبل المجتمع لهذا النمط الجديد من التعليم. فالكثير من المجتمعات العربية لا تزال تتشبث بنماذج التعليم التقليدي وتعتبر التعليم الرقمي غير مألوف أو أقل موثوقية. ففي دراسة حديثة، أفاد حوالي 60% من الأسر في بعض الدول العربية بأنهم يفضلون التعليم التقليدي على الرقمي، وهو ما يكشف عن تحدٍ ثقافي يتطلب تغييراً في المواقف المجتمعية. مُعالجة هذا العائق من خلال الحملات التوعوية الواسعة يمكن أن تسلط الضوء على فوائد التعليم الرقمي في تنمية المهارات، وفتح أفق جديد للتعليم يتيح مرونة وملاءمة أكثر للحاجات التعليمية المتغيرة. الالتزام الجماعي من المؤسسات التعليمية، والقطاع الإعلامي، وكذلك من الجهات الحكومية مُتطلب استراتيجي لضمان نقل رسالة مُوحدة تبرز أهمية هذا التحول.
ولكي يحقق التعليم الرقمي كامل إمكانياته، من الأهمية توفير برامج تدريبية متخصصة للكوادر التعليمية، إذ يشير الخبراء إلى أن نجاح هذا النمط من التعليم يعتمد بشكل كبير على مدى تأهيل المعلمين والطلاب لاستخدام التكنولوجيا بكفاءة ومرونة. فالمعلمون الذين يتلقون تدريباً كافياً يكتسبون قدرة أكبر على تحفيز التفاعل الرقمي وتحقيق نتائج التعليم المنشودة. لذا فإن بناء قدرات المُعلمين يجب أن يكون جزءاً من السياسات الحكومية، لتشجيع البرامج التدريبية وورش العمل والدورات المستمرة حول تطور أساليب التعليم الرقمي. كما ينبغي أن تلتفت السياسات العامة لتوفير المنح الدراسية والدعم المالي للطلاب المحتاجين لضمان حصول الجميع على فرص التعليم الرقمي دون عوائق مالية، وتحقيق مفهوم التعليم كحق أساسي للجميع.
ويُقدر الخبراء في "البنك الدولي" أن تبني تقنيات التعليم الرقمي في الدول النامية يمكن أن يساهم في زيادة النمو الاقتصادي بنسبة تصل إلى 2% سنوياً. هذا الرقم يُلخص الإمكانيات الواعدة لهذا القطاع في تحقيق التنمية الاقتصادية، ما يجعل من تبني التعليم الرقمي خياراً استراتيجياً لتحفيز النمو في الاقتصاديات الناشئة.
كما أن النمو المتوقع لسوق التعليم الإلكتروني، والذي يُقدر بأن يصل إلى 457.8 مليار دولار بحلول عام 2026، يشكل دافعاً إضافياً للعالم العربي للاستفادة من هذه الطفرة التكنولوجية. الاستثمار المستمر في البنية التحتية وتطوير المحتوى وتدريب الكوادر، يمكن للمنطقة من خلاله أن تتبوأ مكانة ريادية في قطاع التعليم الإلكتروني على مستوى العالم. التعاون العربي في هذا المجال، من خلال تبادل الخبرات وتنسيق الجهود، يمكن أن يسهم في تعزيز فرص الوصول إلى التعليم الرقمي وتطويره بطريقة متكاملة.
في نهاية المطاف، التعليم الرقمي ليس مجرد وسيلة تكنولوجية، بل فرصة حقيقية لبناء مستقبل تعليمي يرتكز على الابتكار والشمولية. ومن هنا، يتعين على صانعي القرار في العالم العربي تبني رؤية شاملة تستند إلى التعليم الرقمي كجزء أساسي من استراتيجيات التنمية الوطنية، ليس فقط لتحقيق نهضة تعليمية بل أيضاً لبناء مجتمع رقمي قادر على مواكبة التحولات العالمية والمساهمة في تحقيق مستهدفات التنمية المستدامة.