في فضيحة مذهلة تكشف عن خيوط تاريخية مظلمة لم يكن أحد ليتصورها، أعلنت قناة دويتش فيلا الألمانية عن قضية غاية في الخطورة والوحشية تتعلق بتوظيف نظام الأسد لضباط نازيين هاربين من العدالة الأوروبية منذ سبعينيات القرن الماضي.
هؤلاء الضباط لم يأتوا إلى سوريا للسياحة أو للمساعدة الإنسانية بل جلبوا معهم أساليب دموية متقدمة في التعذيب وقتل الأبرياء، لنقل مهاراتهم في التعذيب القاسي وطرق انتزاع الاعترافات عن طريق التعذيب من الضحايا الذين وقعوا في فخ النظام السوري. تفضح هذه القضية واحدة من أكثر الجرائم التاريخية شراسة ودموية التي رافقت حكم الأسد في سوريا طوال عقود.
صور مرعبة انتشرت على الإنترنت بعد تحرير سجن صيدنايا، حيث يظهر السجناء المحررون في حالة يرثى لها، هزال شديد وجروح واضحة، بينما تبدو الزنازين المكتظة تعكس وحشية النظام في معاملة المعتقلين الذين قضوا سنوات طوالًا في العذاب.
سجن صيدنايا، الذي بني على خمسة طوابق عميقة تحت الأرض، أصبح رمزًا لممارسات النظام الأكثر إجرامًا. كان المكان مليئًا بالجثث الملقاة على الأرض إثر التعذيب المتواصل، حيث تم العثور على مئات الجثث التي قضت نحبهما إثر التعذيب الوحشي. هذا السجن وحده شهد إعدام ما يصل إلى 15 ألف شخص دون محاكمات أو محاسبة بين عامي 2011 و2015، وفقًا لتقارير منظمة أمنستي الدولية.
لكن التاريخ المظلم لهذا السجن يرتبط ليس فقط بتلك الصور المأساوية، بل بشخصيات تاريخية نازية كانت وراء بناء تلك الآلات الجهنمية للتعذيب.
العلاقة المريبة التي جمعت بين النازيين الهاربين ونظام الأسد بدأت منذ أربعينيات القرن الماضي، إذ كان من بين هؤلاء النازيين الذين لجأوا إلى سوريا النازي الشهير ألويز برونر، الضابط الكبير في قوات الحماية الخاصة النازية (SS). برونر، الذي ارتبط اسمه بشكل وثيق بجريمة الهولوكوست وشارك في أعمال تهجير وقتل ملايين اليهود، أصبح أحد أبرز المستشارين العسكريين لنظام الأسد في خمسينيات القرن الماضي بعد هروبه من العدالة الأوروبية.
تقول نورا شالاتي، الباحثة الألمانية في جامعة إرفورت، إن النازيين الهاربين لم يكونوا مجرد أفراد معزولين في سوريا، بل كانوا جزءًا من هيكل أمني سوري أوسع.
هؤلاء الضباط كانوا يشغلون مواقع مهمة في الجيش والاستخبارات السورية، حيث قاموا بتدريب عناصر النظام على أساليب وحشية في التحقيق والتعذيب. هذه الأساليب كانت جزءًا من استراتيجية النظام لفرض السيطرة على الشعب السوري باستخدام الرعب والتخويف. الفائدة التي جلبها هؤلاء الضباط للقيادة السورية كانت كبيرة: كانوا يحملون معهم خبرات مرعبة في تقنيات التعذيب الجماعي والإبادة الجماعية، وهي أساليب تعرفها أجهزة النازيين عن كثب.
أكثر من ذلك، كان برونر وغيره من الضباط النازيين يقدمون خدماتهم للنظام السوري في عمليات إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية السورية. وفي هذا السياق، يذكر الصحفي الاستقصائي الهادي عويج أن النظام السوري كان يفضل الاستعانة بالنازيين الهاربين لأنهم كانوا يعرفون جيدًا كيف يديرون عمليات التعذيب والاستجواب من دون أن يُكتشف أمرهم.
كانت هذه الحيلة السياسية التي سمحت للنظام السوري بتوظيف هؤلاء الضباط في المناصب العليا ضمن جهاز المخابرات السوري، ليصبحوا خبراء في تصفية المعارضين بأساليب متطورة تتجاوز كل حدود القسوة.
ومن بين أكثر أدوات التعذيب شهرة التي كانت تُستخدم حتى وقت قريب في سجون النظام السوري “الكرسي الألماني”، الذي يعمد فيه المحققون إلى كسر العمود الفقري للضحايا من خلال تمديد أجسادهم بشكل قسري إلى الوراء، مما يتسبب في شلل شبه كامل أو إصابات مميتة.
هذا الكرسي، الذي يقال إن برونر كان له دور في تطويره، يعكس ببشاعة كيف كانت سوريا مستعدة لاستقدام أبشع أساليب التعذيب من النازيين الهاربين، بغرض إجبار المعتقلين على الاعتراف أو ببساطة لتدميرهم نفسيًا وجسديًا.
في ظل هذا، يكشف داني أورباخ، المؤرخ الإسرائيلي الذي تناول حياة برونر في كتابه “الهاربون”، أن ألويز برونر لم يكن ضابطًا نازيًا عادياً. بعد وصوله إلى سوريا في 1954، قام بتدريب كبار ضباط المخابرات السورية، من بينهم شخصيات سيئة السمعة مثل مصطفى طلاس، وزير دفاع الأسد الأسبق، الذي كان مسؤولًا عن قمع انتفاضة الإخوان المسلمين في حماة عام 1982 والتي أسفرت عن مقتل أكثر من 30 ألف شخص.
كانت الدورات التدريبية التي أشرف عليها برونر تهدف إلى تحسين فعالية أجهزة المخابرات في سوريا في عمليات القمع والملاحقة الدموية للمعارضين، حيث كان يُدرس للضباط كيفية تحطيم مقاومة المعتقلين وفرض الاعترافات عليهم بطرق غير إنسانية.
الرابط بين نظام الأسد والنازيين الهاربين لم يكن يقتصر فقط على برونر بل شمل مجموعة من الشخصيات النازية الأخرى، الذين وجدوا ملاذًا في سوريا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
في هذا السياق، يوضح الباحثون أن الأسد استغل هؤلاء الهاربين لتمويل وتدريب أجهزة المخابرات السورية التي أصبحت لاحقًا واحدة من أبشع أدوات القمع في العالم العربي.
لكن العلاقات بين النظام السوري والنازيين لم تتوقف عند هذا الحد. فقد شهدت العلاقة تطورًا خلال فترة الحرب الباردة، حينما بدأ النظام السوري يطور علاقاته مع الكتلة الشرقية وخاصة مع جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية).
تم إرسال طلبات سوريّة للحصول على الدعم الفني والتدريب من قبل جهاز “شتازي”، جهاز المخابرات التابع للحكومة الاشتراكية في ألمانيا الشرقية. كانت هذه العلاقات تندرج في إطار تبادل المعلومات والخبرات الأمنية، مما ساعد في تعزيز قدرات النظام السوري في التحكم بالمجتمع السوري، خاصة من خلال الأنظمة البوليسية المتطورة التي كانت تمارس أساليب قمع مشابهة لما فعله النازيون.
على الرغم من عدم وجود أدلة قاطعة تشير إلى تأثير مباشر بين النظام السوري وشتازي أو النازيين، إلا أن المقارنة بين أساليب القمع في ألمانيا الشرقية وأسلوب القمع الذي كان يمارسه النظام السوري، تدعو للدهشة.
الأجهزة الأمنية السورية استلهمت الكثير من تقنيات النازيين والجستابو، من حيث الاستخدام المفرط للقوة والتحقيقات العنيفة والتعذيب المنهجي.
لقد أثبتت هذه العلاقات السرية أن نظام الأسد كان مستعدًا للانحراف إلى أبعد الحدود في سبيل الحفاظ على سلطته، حتى لو تطلب الأمر الاستعانة بأسوأ مجرمي الحرب في تاريخ البشرية.
من هنا، يصبح من الواضح أن النظام السوري لم يقتصر فقط على استيراد الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية، بل استورد أيضًا أساليب إبادة وقتل كانت قد شهدتها أوروبا في أكثر فتراتها دموية.
ما يحدث في سوريا اليوم ليس مجرد قضية حرب أو صراع سياسي، بل هو مأساة إنسانية كبرى تفضح علاقة غير إنسانية بين النظام السوري وقوى دموية تاريخية كانت تروج للأيديولوجيا الفاشية والتعذيب الممنهج.
هذه الفضيحة التاريخية التي لا يمكن السكوت عنها، تبرز حقيقة أن النظام السوري أسس لحكم مستبد على حساب أرواح البشر عبر استيراد أساليب قتل وتعذيب من أسوأ الديكتاتوريات في التاريخ.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط