يعاني الشعب المصري من أسوأ الأزمات في تاريخه، يظل ملف “الاختفاء القسري” أحد أفظع الجرائم التي تكشف عن الوجه الحقيقي للنظام الحاكم، الذي لا يتوانى عن استخدام جميع أساليب القمع والترهيب لإسكات المعارضين.
يذكرنا مشهد خروج المعتقلين والمختفين قسريًا من سجون “صيدنايا” السورية بما يحدث في مصر، حيث أصبح الاختفاء القسري سمة أساسية لنظام يسعى لتدمير كل أمل في التغيير، وإخماد أي صوت معارض مهما كان صغيرًا.
حملة موجهة على وسائل التواصل الاجتماعي، أطلقها ناشطون مصريون، لتسليط الضوء على مئات الحالات التي تعرضت للاختفاء القسري في مصر، جاءت لتفضح واقعًا مريرًا لا يحتمل التراخي أو السكوت.
الحملة تضمن تفاصيل مروعة، شملت أسماء المختفين وأماكن اختفائهم وأزمنة حدوث تلك الجرائم، ليضع الجميع أمام مسؤولية واضحة إما التحرك لإنقاذ هؤلاء المختطفين، أو المشاركة في استمرار هذه المأساة المروعة.
حملة الضغط هذه تسلط الضوء على نظام يغض الطرف عن هذه الانتهاكات الممنهجة ويستمر في تجاهل استغاثات آلاف الأسر التي تنتظر عودة أبنائها.
ليس الأمر مجرد حالة من “الاختفاء” التقليدي، بل هو سياسة مدمرة تروج لها الحكومة بغرض إسكات صوت الحق وتفريغ البلاد من أي معارضة حقيقية.
فما يحدث ليس سوى تكريس للاستبداد، حيث أصبحت قوى الأمن المصرية تتبع أساليب أقل ما يمكن وصفها بأنها بربرية، وهو ما يتجسد في حقيقة أن المنسق الأول لحملة “أسر المختفين قسريًا”، والذي تعرض للاختفاء منذ عام 2017، لا يزال قابعًا في السجن بعد أكثر من سبع سنوات من الحبس الاحتياطي، دون محاكمة أو اهتمام بحالته الصحية المتدهورة بشكل خطير.
ومن هنا، تثبت الأرقام الصادمة التي وثقتها الجهات الحقوقية، مثل المفوضية المصرية للحقوق والحريات، أن أكثر من 4760 حالة اختفاء قسري تم تسجيلها بين عامي 2011 و2024.
ورغم إصدار حكم قضائي في عام 2020 يلزم وزارة الداخلية بالكشف عن مصير المختفين، فإن النظام المصري أصر على تجاهل هذا الحكم، ليظل مصير المختفين في طيّ المجهول، دون أدنى احترام للقانون أو حقوق الإنسان.
تلك المأساة تكشف عن ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ مصر، حيث أصبح الشباب في البلاد، وخاصة الذين تتراوح أعمارهم بين 22 و32 عامًا، المستهدفين الأساسيين من قبل الأجهزة الأمنية، وكأن النظام يتعمد استهداف طاقات المستقبل وقوته الحية.
هذه الفئة العمرية هي الأكثر قدرة على بناء مستقبل مهني واجتماعي، وهي أكثر الفئات التي تعبر عن آرائها وتنتقد الوضع القائم، في الوقت الذي يواجه فيه هؤلاء الشباب قمعًا غير مسبوق. فما الذي يجعل النظام يعادي شباب بلاده بشكل علني؟ ولماذا يتحول هؤلاء إلى أهداف للمطاردة والاختفاء؟ الجواب ببساطة هو أن هذا النظام فقد تمامًا كل وسائل التواصل مع الشعب، واختار استئصال أي صوت قد يهدد عرشه الهش.
لكن الكارثة لا تتوقف عند هذا الحد، بل تتجاوزها إلى واقع أكثر مرارة. فالمختطفون لا يُعاملون كسجناء في محاكمات غير عادلة، بل هم يُخفون بشكل تام دون أي ضمانات قانونية، مما يدمرهم نفسيًا ويحولهم إلى كائنات معذبة لا تدري مصيرها.
عائلاتهم تتحمل العبء الأكبر من المعاناة النفسية والجسدية، حيث يصعب عليهم تحمّل الفقد دون معرفة الحقيقة. هؤلاء الأبرياء، الذين كانوا يعيشون حياة طبيعية، تحولوا إلى أشباح في السجون والمعتقلات، ودمرتهم حالة من القلق الدائم والترقب المستمر لمصيرهم المجهول.
من هنا يطرح السؤال الكبير: ماذا يحقق النظام من وراء هذه الممارسات القمعية؟ كيف يفكر هذا النظام الذي يخطف الشباب، ويعذبهم، ويقذف بهم في غياهب السجون، وهو يعلم أن هذا الطريق لن يؤدي إلا إلى مزيد من الاحتقان والاحتجاج؟ في الواقع، هذا النظام يزرع بذور العنف في كل مكان، وينقل البلاد إلى نقطة اللاعودة.
ففي الوقت الذي يتعرض فيه الشباب لأبشع صور القمع، يتعرض المجتمع بأسره لخطر الانفجار، حيث يرفض الجميع هذا الواقع المفروض عليهم، ويكتشفون تدريجيًا أن النظام الحاكم لا يملك أي مخرج من الأزمة المستعصية التي وضع نفسه فيها.
لم يعد هناك أي شك في أن النظام المصري قد غرق في هاوية من الفساد والفشل السياسي والاقتصادي، حتى أن الشعب أصبح يعي تمامًا ما يحدث، وأصبح الاستياء العام يعم الشوارع.
هذه الحالة من الاحتقان لم تحدث في تاريخ مصر الحديث، إلا في أوقات الحراك الثوري، لكنها اليوم باتت أكثر وضوحًا، والشوارع على أعتاب موجة جديدة من الغضب الشعبي. لقد وصل الغضب إلى ذروته لدى عائلات المعتقلين، وخاصة أولئك الذين يكتوون بنار الاختفاء القسري.
تجسد واحدة من تلك القصص المأساوية حالة أسرة فقدت أحد أفرادها، وهو طبيب شاب اختفى في عام 2018، وقد ماتت والدته حزنًا على فقدانه.
والعديد من الأسر الأخرى تعيش في حالة من الانهيار الكامل بسبب فقدان أحد أفرادها، في وقت تتجاهل فيه الحكومة مطالبهم وتستمر في سياستها القمعية.
ما الذي يفعله هذا النظام بشباب مصر؟ بدلًا من أن يسعى إلى حل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تحاصر الشعب، يختار النظام أن يكسر كل الخطوط الحمراء، ويخوض حربًا ضد الشعب نفسه.
هذا السلوك القمعي لن يؤدي إلا إلى إفقاد الشعب أي أمل في المستقبل، وزرع بذور الكراهية في قلوب أفراده تجاه الدولة. وإذا استمر الوضع على هذا المنوال، فإن الشعب لن يواجه نظامًا مستقرًا، بل سيجد نفسه أمام بركان من الغضب غير القابل للتهدئة.
هذه اللحظة هي الفرصة الأخيرة أمام الجميع لتصحيح المسار، لإغلاق ملف الاختفاء القسري إلى الأبد، ولتحقيق العدالة للمعتقلين. إذا ضاعت هذه الفرصة، فإن الفراغ الذي سيخلفه هذا النظام سيؤدي إلى كارثة قد تكون أسوأ مما يتصور أحد.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط