في خضم معاركنا الفكرية وسجالاتنا اليومية، تتجلى حقيقة مؤلمة تكشف عن خلل عميق في ثقافتنا المعاصرة؛ فحين يتعلق الأمر بالاختلاف مع المرأة، تنهار أسوار الأخلاق وتتهاوى قواعد الحوار المتحضر، لتحل محلها لغة التجريح والطعن في الشرف والعرض. كأن الاختلاف في الرأي يبيح استباحة الكرامة وانتهاك الحرمات.
إن الاختلاف ظاهرة كونية وضرورة إنسانية، فطر الله الناس عليها واقتضتها حكمته البالغة، لكن المأساة الحقيقية ليست في الاختلاف ذاته، بل في أساليبنا المشوهة للتعبير عنه، خاصة حين نختلف مع النساء. فبدلاً من مناقشة الأفكار، ينحدر الكثيرون إلى مستنقع التشكيك في الأخلاق والسمعة، ظناً منهم أن هذا أقصر الطرق لإسكات صوت المرأة وإنهاء الجدل.
وتضرب ظاهرة الطعن في شرف النساء عند الاختلاف معهن جذورها في تربة موروث ثقافي مشوه، يختزل المرأة في بعدها الجسدي ويرى فيها مجرد وعاء للعرض والشرف، متجاهلاً عقلها وفكرها وإنسانيتها. هذا الموروث المغلوط، الذي لا يمت للدين الحنيف بصلة، يتغذى على خليط من عادات بالية ومفاهيم جاهلية، ويستمر في التناسل والانتشار بفعل ضعف الوعي وغياب المحاسبة.
حين تتجرأ المرأة على إبداء رأي مخالف، أو تدلي بموقف غير مألوف، تواجه بعاصفة من التجريح تستهدف عفتها وسمعتها قبل أفكارها. وكأن الرسالة المضمرة هي: “اصمتي أو ستدفعين ثمن جرأتك غالياً”. هذا الإرهاب الفكري والأخلاقي يهدف في جوهره إلى تكميم الأفواه وترسيخ ثقافة الصمت، ليس فقط لدى المرأة المستهدفة، بل لدى كل امرأة قد تفكر في المستقبل بالمشاركة في الفضاء العام.
المفارقة المؤلمة أن مجتمعاتنا التي تتشدق بالدفاع عن شرف المرأة وعرضها، هي ذاتها التي تستبيح هذا الشرف وتلوكه بألسنتها عند أول خلاف. وكأن الشرف سلاح ذو حدين: يُرفع شعاراً للحماية تارة، ويُشهر سيفاً للإسكات والتخويف تارة أخرى.
يقتضي الاحترام الحقيقي للمرأة التعامل مع أفكارها بموضوعية وحيادية، فنقبل ما نراه صواباً، ونرفض ما نراه خطأً، دون المساس بكرامتها أو التشكيك في نواياها. فالفكرة يمكن أن تكون خاطئة دون أن تكون صاحبتها سيئة الخلق أو مشبوهة الأخلاق.
لقد علمنا ديننا الحنيف أن نجادل بالتي هي أحسن، وأن نقول للناس حسناً، وأن نخاطب حتى أعدائنا بالكلمة الطيبة. فكيف نتجاوز هذه التعاليم السامية حين نختلف مع نساء هن شقائق الرجال وأمهات الأجيال وصانعات الحضارة؟
ويزخر تراثنا الإسلامي بنماذج مشرقة في التعامل الراقي مع النساء، حتى في مواطن الاختلاف. فقد كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يستمع لآراء نسائه ويحاورهن باحترام بالغ، ويأخذ بمشورتهن في القضايا الكبرى. ولنا في صلح الحديبية خير دليل، حين أشارت أم سلمة رضي الله عنها على النبي بحلٍ لما استعصى على الصحابة فهمه، فأخذ برأيها وكان في ذلك الخير والحكمة.
وكان كبار الصحابة يختلفون مع السيدة عائشة رضي الله عنها في مسائل الدين والفقه، ويناقشونها في أدق تفاصيل الشريعة، دون أن يمس أحدهم كرامتها أو يشكك في علمها وفضلها. بل كانوا يرجعون إليها ويستفتونها وينهلون من علمها الغزير، مؤمنين بأن الحق ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها.
الاختلاف مع المرأة، كما مع الرجل، ينبغي أن يرتقي إلى مستوى الفن الراقي الذي له أصوله وآدابه وأخلاقياته. فن يقوم على الاحترام المتبادل والتركيز على الأفكار، بعيداً عن التجريح الشخصي أو التشكيك في النوايا.
اللغة المهذبة والألفاظ الراقية تشكل العمود الفقري لفن الاختلاف. فالكلمة الطيبة صدقة، والكلمة القاسية جرح، والجراح قد تلتئم لكن آثارها تبقى. وكلما ارتقى مستوى الحوار لغوياً وأخلاقياً، كلما اقتربنا من الحقيقة وابتعدنا عن الضغائن والأحقاد.
البحث عن القواسم المشتركة يسهم في تجسير الهوة بين الآراء المتباينة. فمهما اختلفنا، تبقى هناك مساحات للاتفاق يمكن أن تشكل أرضية صلبة للحوار البناء. والبدء بنقاط الاتفاق قبل الخوض في نقاط الاختلاف يخلق أجواء إيجابية تسمح بتبادل الأفكار بحرية وشفافية.
واخيراً ؛
إن ثقافة الاختلاف الراقي مع النساء هي ضرورة أخلاقية واجتماعية وحضارية. فالمجتمع الذي لا يحترم أفكار نصفه، ولا يتيح لهذا النصف فرصة التعبير بحرية وأمان، هو مجتمع مبتور الإرادة، مشلول الحركة، عاجز عن مواكبة ركب الحضارة الإنسانية.
عندما نتذكر أن المرأة التي نختلف معها اليوم قد تكون أماً أو أختاً أو زوجة أو بنتاً، وأننا لا نرضى لأمهاتنا وأخواتنا وزوجاتنا وبناتنا ما نفعله بغيرهن من النساء، سندرك فداحة الخلل الأخلاقي الذي نمارسه.
لنرفع جميعاً شعار “هذه ليست أخلاقنا” في وجه كل من يسيء للنساء تحت ذريعة الاختلاف
ولنؤسس معاً لثقافة جديدة قوامها الاحترام والتقدير والحوار البناء، ثقافة تليق بأمة أنجبت خديجة وعائشة وفاطمة وأم سلمة، وآلاف العالمات والأديبات والمفكرات عبر تاريخها المجيد.
إن أخلاقنا الحقيقية النابعة من ديننا الحنيف وقيمنا الأصيلة لا تقبل بأن تكون المرأة ضحية للابتزاز الأخلاقي أو الإرهاب الفكري. وإن كرامة المرأة في مجتمعاتنا خط أحمر، نحميها حين نتفق معها، ونصونها حين نختلف معها، لأنها جزء لا يتجزأ من كرامتنا جميعاً.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط