منطقة الشرق الأوسط لن تعرف الاستقرار، من وجهة نظر ترامب طبعاً، إلا بتصفية القضية الفلسطينية نهائياً، عبر تمكين “إسرائيل” من ضم أراضي الضفة الغربية، أو الجزء الأكبر منها.
حرص الرئيس الأميركي دونالد ترامب على أن يكون رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أولَ ضيف أجنبي يستقبله في البيت الأبيض، في بداية ولايته الثانية، كما حرص على أن يطلق، قبل وصول ضيفه إلى العاصمة الأميركية، تصريحات مثيرة للجدل، كشف خلالها تعاطفه مع فكرة تهجير الفلسطينيين قسراً من وطنهم، كما كشف تعاطفه مع فكرة “تكبير إسرائيل”، التي يرى أنها “صغيرة جداً”، وأنه لم يعد مقبولاً أن تظل صغيرة هكذا إلى الأبد.
لا شك في أن هذه التصريحات أسالت لعاب التيارات المتطرفة، التي تتحرق شوقاً إلى ضم الضفة الغربية وإعادة احتلال قطاع غزة واستيطانه، بعد تهجير سكانهما قسراً.
لم يأبه ترامب كثيراً بأن الضيف، الذي منحه شرف الاستقبال في البيت الأبيض كأول زائر أجنبي، هو مجرم مطلوب للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وأن “الدولة”، التي يمثلها ويتحدث باسمها، تُحاكَم أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني.
ولأنه سبق لنتنياهو أن حصل، خلال فترة ولاية ترامب الأولى، على أكثر مما حلم به، لم يستبعد فريق من المراقبين أن يتمكن من الحصول على كل ما يريد، خلال زيارته الحالية أيضاً. غير أن فريقاً آخر من المراقبين تصوّر أن الأمر سيكون مغايراً هذه المرة.
فعلى رغم اعترافه بانحياز ترامب التام إلى “إسرائيل”، ومعرفته أنه الرئيس الذي يتباهى في أنه استطاع أن يحقق لـ”إسرائيل” ما لم يحققه أي رئيس أميركي آخر، فإنه يميز بين التزام حماية مصالح “إسرائيل” والتزام حماية مصالح نتنياهو وطموحاته الشخصية، ثم لم يستبعد حدوث تباين في الرؤى والأولويات بين الرجلين خلال لقائهما في البيت الأبيض، مستدلاً على ذلك بالدور الذي أدّاه ترامب في دفع نتنياهو إلى الموافقة على صفقة تبادل الأسرى، والتي دخلت حيز التنفيذ فعلاً يوم الـ19 من الشهر الماضي.
من هنا إصابة الجميع بالصدمة مما سمعوه في إبان المؤتمر الصحافي الذي أعقب لقاء الرجلين في البيت الأبيض، فلقد تأكّد، بما لا يدع أي مجال للشك، أن ترامب يتبنى بالكامل أجندة اليمين الأكثر تطرفاً في تاريخ “إسرائيل”، وأعطى نتنياهو خلال لقائهما ما فاق أكثر خيالات الأخير جموحاً.
قبل لقاء ترامب ونتنياهو في البيت الأبيض، مساء الثلاثاء الماضي، ساد اعتقاد مفاده أن المعضلة الرئيسة، التي تواجه ترامب، تنحصر فيما إذا كان في مقدوره إقناع نتنياهو بضرورة تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق، من أجل قطع الطريق أمام احتمال العودة إلى استئناف القتال عند انتهاء المرحلة الأولى، وأنه في حاجة ماسّة إلى استمرار الهدوء في منطقة الشرق الأوسط، على الأقل خلال المرحلة الأولى من فترة ولايته الثانية، بسبب انشغاله بمشاكل أكثر إلحاحاً في مناطق أخرى من العالم.
لذا، ساد تفاؤل حذر بشأن إمكان التغلب على المعضلة الرئيسة، والتي تحول دون الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق، والتي تكمن في كيفية إدارة شؤون القطاع بعد انسحاب القوات الإسرائيلية نهائياً منه، عبر تشكيل لجنة من التكنوقراط، يتم تعيينها بالتوافق بين مختلف الفصائل، وتخضع لإشراف السلطة الفلسطينية.
غير أن ما طرحه ترامب، خلال المؤتمر الصحافي، الذي أعقب لقاءه نتنياهو، أصاب الجميع بالذهول، ونسف القواعد التي بُني عليها اتفاق وقف إطلاق النار من الأساس.
قال ترامب إن قطاع غزة أصبح مكاناً غير قابل للحياة. وبالتالي، لن يكون في وسع الفلسطينيين العيش وسط هذا الكم من الخراب. ولأن إعمار القطاع سوف يستغرق فترة طويلة، تترواح بين 10 و15 عاماً، فالحل الوحيد والأمثل، من وجهة نظره طبعاً، هو أن تستحوذ الولايات المتحدة عليه، أو بالأحرى أن تستولي عليه، كي يكون في مقدورها تنظيفه من الركام والقنابل التي لم تنفجر، والتعامل مع شبكة الخنادق تحت الأرض، وهو ما لا يمكن أن يتم إلا بعد ترحيل الفلسطينيين إلى مصر والأردن ودول أخرى، إن لزم الأمر، كي يسهل إعماره بعد ذلك، وتحويله إلى “ريفييرا” الشرق الأوسط.
المذهل في هذا المخطط أن ترامب لم يقصر حديثه على قطاع غزة، وإنما تطرق أيضاً إلى الضفة الغربية. ففي إجابته عن سؤال بشأن مصيرها، أشار ترامب إلى أن إدارته لم تتخذ قراراً بعدُ بشأن ضمّها إلى “إسرائيل”، لكنها تنوي القيام بذلك خلال الأسبوعين المقبلين.
معنى ذلك أن منطقة الشرق الأوسط لن تعرف الاستقرار، من وجهة نظر ترامب طبعاً، إلا بتصفية القضية الفلسطينية نهائياً، عبر تمكين “إسرائيل” من ضم أراضي الضفة الغربية، أو الجزء الأكبر منها، وتمكين الولايات المتحدة من الاستيلاء على قطاع غزة وتعميره، تمهيداً لتسليمه، لاحقاً، خالياً من الفلسطينيين إلى “إسرائيل”. أما إذا لم يوافق الفلسطينيون والدول العربية المعنية على مقترحات ترامب، فالجحيم ينتظرهم جميعا، ولا شيء غير الجحيم!!
نظرة بسيطة إلى رؤية ترامب هذه، وهي نسخة معدلة عن “صفقة القرن”، تُظهر حجم التناقض الصارخ بينها وبين اتفاق وقف إطلاق النار، الذي يتفاخر ترامب في أنه أدى دوراً رئيساً في إبرامه، حتى قبل دخوله البيت الأبيض.
فالمرحلة الثالثة من الاتفاق تنص على أن إعمار القطاع سيتم وفق خطة تنفَّذ حلال فترة تتراوح بين 3 و5 أعوام، وتشرف عليها مجموعة من الدول، بينها مصر وقطر والولايات المتحدة ودول أخرى، وهو ما يفسّر تصريحات أدلى بها ستيف ويتكوف، مبعوث ترامب الخاص إلى الشرق الأوسط، تشير إلى اعتزام الإدارة الأميركية فتح باب التفاوض من جديد لتعديل بنود المرحلة الثالثة من الاتفاق. ويُفهم من هذه التصريحات أن إدارة ترامب معنية باستمرار وقف إطلاق في المرحلتين الأولى والثانية، من أجل استعادة جميع الرهائن الأحياء، وأن تعمير القطاع بات مشروطا بموافقة الفلسطينيين والدول العربية المعنية على الرؤية التي طرحها ترامب، في مؤتمره الصحافي مع نتنياهو.
تعكس هذه الرؤية، في تقديري على الأقل، ثلاثة أبعاد أساسية. البعد الأول: درجة عالية من إحساس عام بالقوة والجبروت والتسلط. فترامب يعتقد أنه لا توجد قوة أخرى في العالم قادرة على ردعه، أو زجره، أو منعه من تنفيذ كل ما يحلم به، مهما بلغ شططه.
فهو لا يسعى للاستحواذ على قطاع غزة فحسب، وإنما يعلن أيضاً أنه يريد الاستيلاء على دولة كندا، وضمها إلى الولايات المتحدة، لتصبح الولاية الـ ـ51، ويريد احتلال قناة بنما بدعوى أن الأميركيين هم من حفروها، ويريد شراء جزيرة غرينلاند، لأنها ضرورية للأمن القومي الأميركي.
البعد الثاني: قَدْر هائل من مشاعر الازدراء والاحتقار تجاه العرب والمسلمين، شعوباً وحكاماً. فترامب يرى أن الشعوب العربية متخلّفة وتقدّس العنف والموت، وتنفر من الحياة، ويرى أن الحكام العرب هم مجموعة من الأثرياء السفهاء، الذين لا همّ لهم سوى اللهو والعبث وتأمين كراسي الحكم، بكل الوسائل الممكنة، المشروعة وغير المشروعة.
البعد الثالث: كمّ هائل من الاستهانة بكل القواعد الأخلاقية والقانونية والإنسانية. فلم يتفوّه ترامب بكلمة تعاطف واحدة تجاه الفلسطينيين، الذين تعرّضوا لهولوكست ولإبادة جماعية، ويصرّ على تحطيم كل المؤسسات الدولية، التي لا تتمتع الولايات المتحدة فيها بالنفوذ والسيطرة، بما في ذلك المؤسسات المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان، ووكالات الإغاثة الإنسانية، وفي مقدمتها “الأونروا”. حتى إنه يرى أن القرارات، التي تتخذها الإدارة الأميركية، هي القانون الدولي بعينه، وأن الولايات المتحدة لا ينبغي لها أن تخضع لأي قانون أو قواعد، سوى ما يصدر عن مؤسساتها الداخلية.
سيعود نتنياهو إلى “تل أبيب” منتشياً ومطمئنّاً إلى أن ائتلافه الحكومي سيصمد. وليس من المستبعد أن يقرر بن غفير وحزبه العدول عن الاستقالة والعودة إلى الالتحاق بالائتلاف الحكومي من جديد. فلم تعد حكومة نتنياهو في حاجة إلى شبكة أمان تقدّمها أحزاب المعارضة، بل أصبحت في وضع يمكّنها من استئناف القتال في أي وقت، سواء تم الاتفاق على تنفيذ المرحلة الثانية أو لا.
وهي مطمئنة تماماً إلى تأييد أميركي مطلق لكل ما تتّخذه من قرارات. لذا، يمكن القول إن الكرة أصبحت الآن في الملعب العربي، وخصوصاً في ملعب الأنظمة الحاكمة، التي باتت دولها معرّضة لمخاطر أمنية شديدة. فما العمل؟
أعتقد أن أول ما يجب القيام به هو إنهاء الانقسام الفلسطيني، وإعلان كل الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك حركة فتح والسلطة الفلسطينية، قيامَ حركة تحرر فلسطينية موحَّدة، تتولى قيادة النضال الفلسطيني في المرحلة المقبلة.
وفي تقديري أن من مصلحة حماس الاستمرار في تنفيذ الاتفاق الحالي لوقف إطلاق النار، وتحميل “إسرائيل” والولايات المتحدة المسؤولية عن انتهاكه. فتنفيذ المرحلة الأولى منه سوف يضمن دخول أكبر قدر ممكن من المعونات الإنسانية، ويتيح الفرصة في التقاط الأنفاس، وإعادة تنظيم الصفوف، مع الاحتفاظ، في الوقت نفسه، بعدد لا يستهان به من الأسرى الإسرائيليين.
لكنّ المسؤولية الأكبر تقع على عاتق الأنظمة العربية، التي ينبغي لها أن تتحرر نهائياً من وهم التسوية السياسية، وأن تراهن فقط على المقاومة، بكل أشكالها. فـ”إسرائيل” ليست جاهزة الآن، مثلما لم تكن جاهزة في أي وقت مضى، لأيّ تسوية عادلة أو مقبولة. وبالتالي، ليس لديها ما تقدمه سوى تصفية نهائية للقضية الفلسطينية.
والولايات المتحدة ليست جاهزة الآن، مثلما لم تكن جاهزة في أي وقت مضى، للقيام بدور الوسيط النزيه أو المحايد. وبالتالي، ليس لديها ما تقدّمه سوى تمكين “إسرائيل”، وكيلتها الوحيدة والموثوق بها، من الهيمنة على كامل المنطقة.