تواصل معي في الأمس أحد الشخصيات البارزة في الهيئة العامة لقصور الثقافة، بعدما نشرت مقالي عن الأوضاع المتدهورة للثقافة في الأقاليم، وفتح باب النقاش حول حقيقة ما يحدث من تجديدات أو إعادة تأهيل للمواقع الثقافية في مختلف أنحاء الجمهورية.
طلب مني المسئول أن أكون أكثر موضوعية، وأن أكتب عن الأنفوشي والشاطبي ومصطفى كامل، وأن أوازن بين الصالح والطالح، مبررًا ذلك بأن المهنية تتطلب الالتزام بالحياد.
أجبته ببساطة أنني سوف أتناول الحديث عن التجديد والتطوير في تلك المواقع لكنني عند البحث عن المواقع التي تم تجديدها وتطويرها لم ألحظ أي تغيير حقيقي، ومن دون تلك التجديدات الجذرية والعميقة والجوهرية، ستظل الحالة الثقافية في مصر تسير نحو حافة الهاوية.
تتكرر العناوين والأخبار حول التجديدات في قصور الثقافة، لكن الحقيقة التي تغفلها تلك العناوين هي أن التغيير ليس في الشكل أو البنية التحتية فقط، بل في العقلية التي تدير هذه المواقع.
يواصل المسؤولون الإعلان عن إصلاحات وتحديثات جديدة، وفي كل مرة يطرحون مشاريعهم على الشعب كما لو أن هذه التعديلات كفيلة بإحداث ثورة ثقافية في مصر.
يغفل الجميع أن المشكلة ليست في المباني القديمة، بل في الفهم السطحي لما تعنيه الثقافة. يحاولون تجميل الواجهة من دون النظر إلى جوهر المضمون، فبقية المواقع الثقافية، التي يتم تزيينها بديكور حديث وأثاث جديد، تبقى خاوية من روح الإبداع الحقيقية.
فقد تقدمت الهيئة العامة لقصور الثقافة بخطط تطوير استهدفت تحسين مستوى الثقافة في مصر عبر استثمار مبالغ ضخمة على مدار سنوات، وخاصة منذ 2014.
صحيح أن بعض المواقع الثقافية قد تلقت عمليات تجديدٍ وأعمال صيانة، ولكن الواقع يقول إن الجهود التي تمت تقتصر على شكل المظهر الخارجي، بينما الجوهر الثقافي يعاني في صمتٍ رهيب.
المسؤولون يتفاخرون بإنجازاتهم، يتحدثون عن تجديد قصور الثقافة في أماكن محددة، وافتتاح مواقع جديدة، بينما يكاد الجمهور يراها مسرحًا للفشل والتخبط.
القصة أكبر من مجرد هياكل مبنية أو تصليحات ظاهرة للعيان. المسؤولون يزعمون أن الهيئات قد أنجزت تجديدات ضخمة، وتمكنت من تحسين الأداء الفني والثقافي عبر إضافة تقنيات حديثة، ورفع جودة الخدمات المقدمة للمواطنين.
ولكن من يجرؤ على النظر في الحقيقة المرة؟ هل حقًا أن الأنفوشي أو الشاطبي قد تحولا إلى مراكز ثقافية حية تحمل روح الابتكار والتطور؟ في واقع الحال، المواقع الثقافية التي تم تجديدها تظل مجرد معالم فارغة، أو على أفضل تقدير، هي محاكاة للثقافة وليست تنمية حقيقية لها.
منذ البداية، كان من المفترض أن تكون الهيئة العامة لقصور الثقافة هي الحامي الأول للثقافة في مصر. ولكنها بدلاً من أن تحتضن الإبداع الفني وتُطلقه، أصبحت جزءًا من الأزمة التي نعيشها اليوم.
فهيئة تسعى لتعزيز دورها في المجتمع عبر إحداث تغييرات بسيطة في المباني، بينما تغفل عن التحديات الكبرى التي تواجه الثقافة نفسها. ببساطة، الخلل ليس في المباني أو المرافق فقط، بل في جوهر الفكرة الثقافية نفسها التي يتم إقصاؤها تدريجيًا لصالح القوالب الجاهزة.
يظهر جليًا أن الهيئة العامة لقصور الثقافة قد ركزت على تحديث البنية التحتية، ومع ذلك لا زال التدهور في النوعية مستمرًا. هل يمكن للأنشطة الثقافية أن تنتعش إذا كانت متروكة لفرق غير مؤهلة أو إذا كانت الاحتفالات الثقافية مجرد محاكاة لروح أصيلة؟
حيث يروج المسؤولون لأخبار التحديثات العديدة في العديد من المواقع الثقافية، من الإحلال والتجديد في قصور الثقافة إلى التوسعات التي طالت عدة أماكن في المحافظات.
ويتفاخرون بهذه الإنجازات وكأنها نهاية المطاف، بينما يظل الوضع الثقافي في الأقاليم، بل وفي المدن الكبرى، كما هو، لا يتغير، ولا يستجيب لهذه التحديثات التي تقتصر على الشكل.
يشيرون إلى الأنفوشي والشاطبي كمثالين على نجاحات الهيئة، لكن هل هذه الأماكن تحولت فعلاً إلى مراكز حيوية للثقافة والفنون؟ لن تكون الأنفوشي أو الشاطبي أو أي مواقع أخري قادرة على حمل شعلة الثقافة الحقيقية في ظل هذه الممارسات الرتيبة التي تهدر القدرة على إحداث تغيير عميق وملموس في المجتمع.
تستمر الهيئة العامة لقصور الثقافة في تقديم وعودها بأن العمل على تجديد المواقع الثقافية سيساهم في الارتقاء بالمستوى الثقافي في مختلف محافظات مصر.
يواصلون ضخ الأموال في مشاريع تجديد لا علاقة لها بالارتقاء بجودة البرامج الثقافية التي تقدمها هذه الأماكن. يحاولون إقناعنا بأن قصر ثقافة بورسعيد أو قصر ثقافة 26 يوليو أصبحا أفضل من قبل، بينما الواقع يؤكد أن المحتوى الثقافي داخل هذه الأماكن ما زال يفتقر إلى العمق، ويتسم بالركود، ولا يتواكب مع تطلعات المجتمع الفني.
يتغاضى البعض عن السؤال الأكثر أهمية: ماذا عن البرامج الثقافية التي تقدمها هذه الأماكن؟ هل يُفترض أن نكون راضين بمجرد تجديدات في الجدران والأثاث؟
تركز الهيئة على الجوانب البصرية والتقنية بينما تغفل عن أهمية تطوير الكوادر البشرية والتفاعل مع الجمهور. لا يمكن لأي تجديدات هيكلية أن تغير الواقع الثقافي إذا لم يكن هناك تغيير في الخطط الثقافية، في كيفية جذب الجمهور، في تقديم عروض فنية مبدعة وملهمة تتجاوز الحدود التقليدية.
يتجاهل المسؤولون أن الثقافة تحتاج إلى برامج مستدامة، إلى نشاطات مستمرة، إلى كوادر بشرية مؤهلة، إلى حوافز تشجع على الابتكار والفن. يحاولون تصوير المسألة وكأنها مجرد قضية بناء وترميم، لكن الثقافة ليست مجرد هياكل وأسطوانات موسيقية وأثاث.
تحتاج الثقافة إلى أن تتنفس وتزدهر من خلال أفكار جديدة، ورؤية عميقة للواقع الثقافي في مصر. إذا استمررنا في النظر إلى التجديدات كحل سحري، فإننا في الحقيقة نغرق في دائرة مغلقة من الأزمات الثقافية التي لن تنتهي.
يتسائل العديد من المبدعين، في ظل هذا الركود الثقافي، عن كيفية استثمار هذه الأماكن في تنمية الوعي الفني والذوق الشعبي بدلاً من أن تكون مجرد قاعات فارغة.
الأهم من ذلك كله هو السؤال الجوهري: هل تريد الهيئة العامة لقصور الثقافة أن تكون هيئة تُحدث فارقًا حقيقيًا في حياة المصريين، أم أنها مجرد كيان يطفو على السطح دون أن يمتلك القدرة على بناء ثقافة فاعلة وقادرة على تحدي الزمن؟
لن يساهم تجديد المباني وإعادة تركيب الأثاث في إحداث تأثير مستدام، لأن التأثير الأكبر يبدأ من الإنسان ذاته، من الثقافة الحية التي تتسلل إلى عقول الأفراد وترتقي بهم.
إذا كانت هذه الهيئة تؤمن حقًا بأن هناك تغييرًا حقيقيًا، فعليها أن تبدأ بتغيير حقيقي في الأفراد الذين يديرون تلك الأماكن.
يجب أن يكون هناك تنسيق أكبر مع المفكرين والمبدعين والفنانين في كافة المجالات الثقافية. أما إن كانت الهيئة تكتفي بالمظاهر الخادعة، فلن تُغير شيئًا في نهاية المطاف.
تتطلب الثقافة المصرية اليوم أكثر من مجرد تجديدات في المباني. تتطلب تحولًا حقيقيًا في الفكر الإداري، في تغيير جذري في السياسات الثقافية، وفي تطوير الطرق التي يتفاعل بها المواطنون مع هذه المرافق. لا يمكن التغاضي عن أهمية الاستثمار في الإنسان المثقف المبدع القادر على التأثير في المجتمع.
إننا نحتاج إلى تجديد حقيقي لا يقتصر على إعادة بناء القصور، بل يشمل أيضًا استثمارًا في الأفراد، في الفكر، في الأعمال الإبداعية التي يجب أن تُسهم في بناء الوعي الثقافي في الأقاليم.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط