لقد أحدثت الثورة السورية التي أطاحت بنظام البعث المستبد بعد 61 عامًا صدمةً على مستوى المنطقة والعالم، وكشفت عن شخصية سياسية جديدة تمامًا.
فقد ظهر أحمد الشرع الذي كان لسنوات شخصية غامضة محاطة بأساطير يُعرف بأسماء مستعارة ومطلوبًا للعدالة بتهم إرهابية وحتى وُضعت على رأسه مكافآت ضخمة، ظهر على الساحة بهويته الحقيقية.
فبعد أن كان اسمه مجرد رمز، أصبح وجهًا مألوفًا للجميع، يتميز بشخصية قوية وحضور لافت.
إذ تعرف الناس عليه أولاً باسمه الحقيقي، بعدما كان يُعرف بلقب “جولاني”، ثم بدت شخصيته الواقعية تتجلى من خلال حضوره المميز وحركاته وتعابير وجهه، وحتى لباسه، مما جعله يجسد شخصية ملموسة وحقيقية.
ما حققه الشرع ليس إنجازًا عاديًا يمكن لأي شخص أن يحققه في التاريخ؛ فقد أطاح بنظام جعل البلاد غير قابلة للعيش وظل يخنق البلاد على مدار 14 عامًا، وأحدث ثورة استثنائية خلال 12 يومًا فقط.
لكن اللافت ليس فقط في الإنجاز بل بالطريقة التي تم بها، والتي ستضمن له مكانة مميزة في تاريخ الثورات وحتى الحروب.
فمنذ أسابيع قليلة فقط، كانت الدول العربية والأوروبية التي جمدت علاقاتها مع النظام منذ 14 عاماً تتسابق لإعادة تطبيع العلاقات معه.
بل إن بشار الأسد نفسه وقف أمام منظمات دولية كمنظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية ليتحدث ضد ممارسات إسرائيل في غزة دون خجل، ودون أن يلتفت إلى ما ارتكبه بنفسه.
والأدهى أن حديثه في تلك المحافل كان يُعتبر أمرًا عاديًا، رغم المجازر وجرائم الحرب التي ارتكبها على مدى 14 عامًا والتي لا تقل وحشية عن انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي.
لقد فقد الناس الأمل في إسقاطه وبدؤوا في اتخاذ خطوات نحو إعادة العلاقات والتطبيع.
وحتى وقت قريب كانت الاجتماعات والخطط تعقد في وزارة الخارجية الأميركية بشأن مستقبل سوريا مع الأسد.
أن يقوم أحدهم بعكس تيار العالم بأسره، ويدخل من حلب ليصل إلى دمشق في غضون 11 يومًا فقط، ليس بالأمر البسيط.
إن هذه الخطوة، التي جاءت بعد أن فقد الجميع الأمل في وقف مجرم ضد الإنسانية لم يعد العالم قادرًا على إيقافه، واعتمد منفذوها فقط على الله، تُظهر توافقًا واضحًا مع الروح والعقلية التي قادت أبطال غزة في “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر.
فكلا الحدثين استمد قوته وإلهامه ودافعه من نفس المنبع الفكري والعقائدي.
وكما ذكرنا مرارًا، فإن الأرضية الاستراتيجية التي جعلت من عملية 27 نوفمبر ممكنة استقرت بشكل كبير بفضل طوفان الأقصى.
تشير سورة الفتح إلى أن من نتائج النصر أن يغفر ما تقدم وما تأخر من ذنوب المؤمنين وتُمحى أخطاؤهم. في الواقع ما تشير إليه الآية يتصل بعملية اجتماعية عميقة؛ إذ تؤدي الإنجازات الكبرى، كالانتصارات والفتوحات، إلى إعادة تعريف الجريمة والمجرمين.
فالأسماء التي كانت مدرجة في قوائم الإرهاب، مثل أحمد الشرع ورفاقه، ستُعاد صياغة صورتها في ضوء إسقاطهم لنظام الأسد الإجرامي وما أحدثوه من فتح عظيم، مما سيغير نظرة الناس إليهم وإلى ماضيهم ومستقبلهم.
وسيُعاد تقييم ماضي أحمد الشرع في ضوء الثورة الواضحة التي حققها اليوم. فمن خلال تحقيقه العدالة للشعب السوري وللإنسانية جمعاء، وبما قدمه من خير، بات يمتلك الشرعية الكافية لتحويل وصف “الإرهابي” الذي ألصق به إلى وصمة عار على من ألصقها به.
ومع تزايد الكشف عن تفاصيل ماضي وشخصية أحمد الشرع التي تثير فضول الناس وتجذب انتباههم، بدأت تظهر بوضوح معالم شخصية قيادية كاريزمية.
الكاريزما هبة من الله ولها جانب فطري، ترتبط بطول القامة والجاذبية والقدرة التلقائية على التأثير في الآخرين.
وحتى لو كان الشخص محظوظًا بامتلاك هذه الصفات، فإن الكاريزما لا تتكون وتستمر بهذه الصفات وحدها.
بل يتطلب استمرارها تحقيق النجاحات.
فالفشل يمكن أن يضعف حتى أقوى كاريزما بسرعة، واستمرار الفشل يقضي على القيادة تمامًا بمرور الوقت.
ومن الواضح أن النجاح الكبير الذي حققه الشرع في هذا العمر يستدعي المزيد من التركيز على كاريزميته القيادية.
وينبغي عدم إغفال الاهتمام الذي أبداه الشرع بقضية فلسطين في مواجهة الاحتلال الصهيوني الذي بدأ في العراق قبل مسار المجاهدين هناك، والذي انتقل عبر القاعدة وداعش والنصرة، وبعدها من العراق إلى سوريا.
ولكن قبل هذا كله، لا بد من الإشارة إلى دور جده، قاسم الشرع، الذي ناضل ضد الاحتلال الفرنسي في مرحلة العشرينيات من القرن الماضي، حيث لجأ مع قائد الثورة السورية في ذلك الوقت، سلطان باشا الأطرش، إلى مدينة السلط في الأردن.
ولاحقاً انتقلت العائلة من الجولان المحتل إلى دمشق بسبب خيانة الأسد، لتعيش مجدداً تجربة الهجرة والاحتلال.
وبعد انتقال والد أحمد الشرع إلى السعودية بسبب نظام الأسد، وُلد أحمد الشرع هناك، مما يدل على أن روح وموروث مقاومة الاحتلال الإمبريالي استمر لأربعة أجيال في عائلته.
يبلغ الشرع من العمر الآن 42 عامًا، وعندما بدأ الحراك في سوريا كان عمره 28 عامًا فقط. وقد نضج خلال هذه الفترة من خلال خوضه الكثير من التجارب في ساحات المعارك.
لقد تغير وتطور وربما تحول كثيرًا عن النقطة التي بدأ منها.
ولكن في النهاية، كانت لديه أهداف ومبادئ لم يتخل عنها أبدًا. فبعد أن كان يتصور صراعه في البداية ضمن إطار جهاد عالمي، خصصه منذ عام 2011 لتحرير سوريا من نظام الأسد وركز عليه.
ومنذ ذلك الحين، قرر ألا يتدخل في شؤون دول أخرى بأي شكل من الأشكال، وجعل تحرير بلاده هدفه الرئيسي.
وقد سمعت من العديد من الأشخاص أنه كان يعلن لسنوات أن هدفه الأول هو تحرير دمشق.
ويقول أحمد منصور من قناة الجزيرة، الذي تابع مسار الثورة منذ بدايتها، إنه تلقى منه هذا التصريح عدة مرات، ولكن عندما سأله نفس السؤال بعد الثورة مباشرة، أكد له رغبته في “إعادة إعمار سوريا من أجل شعبها”.
إن ما ذكره أحمد منصور عن مهاراته القيادية يتطابق تمامًا مع الانطباعات التي تكونت لدي من خلال مقابلاتي الطويلة معه ومع الأشخاص المقربين منه الذين عملوا معه.
قد يُفاجأ أولئك الذين يبحثون عن القسوة والصلابة وراء نجاح أحمد الشرع عند التعرف عليه عن كثب، وقد يشعرون بخيبة أمل في البداية، إلا أنه مع التعمق في معرفته، يصبح الأمر أكثر وضوحًا.
فالشخصية التي سيقابلونها هي شخصية مهذبة ورقيقة ومتواضعة وبعيدة كل البعد عن القسوة وتتمتع بقدرة عالية على الاستماع والتفهم قبل أن تتحدث.
وقبل أن يصل إلى هدفه النهائي، أظهر في إدلب قدرات إدارية وتنظيمية كبيرة، كما أظهر قدرته على التعلم من الأحداث والتطورات والتكيف معها.
فقد تعرض للاحتجاجات أثناء حكمه في إدلب، إلا أن هذه الاحتجاجات لم تُغضبه، بل دفعته إلى محاولة فهم الوضع بشكل أفضل والاستماع إلى مطالب المتظاهرين ليعمل على معالجة القضايا المتعلقة بإدارته.
وعندما أدرك أنه لا يمكنه تحقيق هدفه الأكبر، وهو إسقاط نظام الأسد، دون بناء وحدة حقيقية بين مختلف الفصائل المعارضة، بدأ عملية حوار جاد مع المجموعات المختلفة التي لم تستطع التحرك نحو هدفها الحقيقي المتمثل في إسقاط الأسد بسبب النزاعات فيما بينها، وبطريقة ما تمكن من حل مشاكلهم معهم جميعًا.
ولذلك فإن الوحدة التي ظهرت في نهاية المطاف، والتي أثرت بشكل كبير في النتيجة النهائية، هي نتيجة أيضًا لأدائه الحواري الفعّال.
إن هذا الأداء لا يتحقق بالقسوة والقوة المتغطرسة، بل يتم بالدرجة الأولى باللطف والأدب والوفاء بالعهود والحوار والتفاهم والعزم، والقدرة القوية على الإقناع.
وإلى جانب النجاح الذي حققه الشرع في قيادة هذه المرحلة، تضاف الكاريزما الناتجة عن نجاحه الكبير وانتصاره وفتحه.
وعند وصوله إلى دمشق قام بثلاثة أعمال أضفت إلى انتصاره لمسة من الرقي، كما منحت قيادته معنى عظيمًا من خلال محتواها الرمزي.
أولاً، سجد سجدة شكر إيمانًا منه بأن النصر من عند الله، ثم توجه إلى الجامع الأموي وصلى فيه، وبعد ذلك توجه إلى منزله الذي وُلد ونشأ فيه، فطرق الباب وأبلغ الشخص الذي فتح له الباب بكل تهذيب أن هذا المنزل يعود له، وأبلغه بلطف أن عليه إخلاءه في فترة زمنية معقولة.
وبذلك قدم نموذجًا لجميع السوريين الذين عانوا من انتهاك حقوقهم في الملكية بوحشية على يد نظام البعث طوال سنوات، وأرشدهم إلى الطريق.
كما أن استمراره في إظهار اللطف تجاه من اغتصبوا منزله، رغم حقه فيه، قد عزز من الطابع الإنساني للثورة.