د. محمد الصياد*
باستثناء فلسطين المحتلة وحفنة صغيرة من الدول الجزرية، فإن العالم قد انتقل عملياً منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في 1945، من مرحلة الاستعمار المباشر للدول إلى مرحلة الاستقلال السياسي الكامل.
لكن، ونتيجة للبنية الفوقية التي أنتجها النظام الدولي الجديد (لما بعد الحرب)، شكلاً ومضموناً، فقد نتج عن ذلك (من الناحية العملية) ظهور وتبلور وترسخ منظومة اقتصادية عالمية قطبها الولايات المتحدة الأمريكية، وفي فلكها تدور بقية الدول في عملية اقتصادية هرمونية، تبدو تكاملية، لكنها في جوهرها غير متوازنة.
وعلى ذلك، تبدو السياسات الاقتصادية العالمية، التجارية والمالية والنقدية، إما أنها مستوحاة أو متأثرة حكماً بما هو سائد من سياسات وتوجهات اقتصادية (مالية ونقدية) في الولايات المتحدة، وما هو صادر من سياسات وتطبيقات وممارسات مالية ونقدية وتجارية عن المؤسسات والهيئات الدولية الناظمة لحركة الاقتصاد العالمي، التي تسيطر عليها وتوجهها الولايات المتحدة، بحكم تمتعها بالحصة الأكبر من رؤوس أموالها المدفوعة وترتيبا حصتها التصويتية.
فمعظم هيئات ومؤسسات النظام الاقتصادي العالمي أُنشئت بقيادة وإشراف الولايات المتحدة في إطار نظام مصمم لإحكام عملية التشريع والتقرير والتوجيه، ومسيّج بوسائل تعمل بانتظام على تأمين استدامة السيطرة شبه التامة على معظم مسارات العلاقات الاقتصادية الدولية: من تسليح الدولار إلى الانتشار القاري عبر حوالي 800 قاعدة عسكرية وأساطيل بحرية. فكان أن دانت لها السيطرة على كافة شؤون الحياة الدولية، السياسية، والدبلوماسية، والاقتصادية (يشمل ذلك الشؤون المالية والنقدية)، والاجتماعية، والثقافية، والرياضية.
وهي هوليوود ووسائل الإعلام ومراكز الفكر التي تشكل السرديات، وهي القدرة على إملاء من يُعاقب، ومن يُقصف، ومن يحظى بمستقبل.
فأصبحت الولايات المتحدة، والحال هذه، هي الحاكم الفعلي للعالم بأسره. حتى منظمة الأمم المتحدة، استحال دورها، في ضوء هذه الوقائع المادية، شكلياً، تقتصر فعاليتها على إرادة الولايات المتحدة التي في حال اتجهت (هذه الإرادة) نحو إصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بإجماع الدول الخمس دائمة العضوية في المجلس، والسير قدماً في تنفيذه، تكون منتجة أو لا.
لهذا لم تعد الولايات المتحدة بحاجة للحصول على الشرعية من الأمم المتحدة حين تقرر فرض عقوبات اقتصادية على أي دولة أو شركة أو أفراد في أي دولة من دول العالم. فهي تضمن فعالية هذه العقوبات حتى لو لم تلتزم بها بعض الدول. ذلك لأنها تسيطر على كافة مؤسسات ومسارات العلاقات الاقتصادية الدولية.
كثيرون في الولايات المتحدة وخارجها يراهنون اليوم على إيلون ماسك وأتباعه من أصحاب التكنولوجيا ووزير الطاقة الأمريكي السابق دوغ جوردان من القادمين الجدد من الخلف للتخلص من الدولة العميقة وإنهاء دوامة الاستدانة، لقيادة التحول نحو السياسة الواقعية، ما سيخلق ظروفا أفضل لنشوء عالم يتمتع بقدر أكبر من الأمن والاستقرار الاقتصادي.
لكن آخرين متوجسون من هذا التدافع المتهور لماسك وأتباعه من أرباب صناعة التكنولوجيا الذين ليسوا سوى فصيل آخر يرى الفرصة في الفوضى. يَعِدُون بالابتكار بينما يتغذون على إعانات الدولة والهندسة المالية. إنهم لا يتخلصون من الدولة العميقة، بل يزدهرون في أكناف امتيازاتها الاقتصادية.
وهذا بالتالي ليس تحولاً من خانة المحافظين الجدد إلى الواقعية السياسية. بل هم نفس النخبة، إنما بهوية مغايرة. وإذا كانوا هم المستقبل، فهو مستقبل مبني على التكنولوجيا والتلاعب. وهم يخفون نفس التعطش للسلطة الذي كان دَيْدن من سبقوهم. إنهم لا يفككون الدولة العميقة، بل يستبدلونها بأخرى يسيطرون عليها. لهذا، فإن العالم لا يتحسن عندما يحل الأوليجارشيون الجدد محل القدامى، وإنما يتحسن عندما تسقط هذه الميكانيزمات المعقدة من طرائق الحكم، ويتم استبدالها بأخرى سليمة.
لكن الذي لا شك فيه، أنه إذا سقطت الولايات المتحدة، فسوف يقع العالم الغربي بتعداد سكانه البالغ مليار نسمة في حالة من الفوضى، بما يعاكس الطريق الذي اختطته بقية بلدان العالم بملياراتها السكانية السبعة، التي شرعت منذ حين في التوحد وإحلال السلام وتحسين التنمية والأمن من خلال مبادرة الحزام والطريق، ومجموعة بريكس، ورابطة دول جنوب شرق آسيا ونحوها.
كانت الولايات المتحدة هي عامل الفوضى التي ابتلي العالم في «ظلها» لمدة قرن من الزمان بالحروب والإرهاب والاغتيالات والثورات الملونة والركود الاقتصادي والرأسمالية المفترسة وما إلى ذلك.
وإذا تحرك تركيز الولايات المتحدة نحو الداخل، تواصلاً مع تداعي أحداث ما يبدو انقلاباً تكنوقراطياً يسعى منفذوه لتحقيق خطتهم ورؤيتهم التكنوقراطية الديستوبية، في وقت تتعزز فيه الاتجاهات العالمية للتعاون والتشارك، فسيكون هناك نظام أفضل من «نظام» الفوضى غير الخلّاقة السائد.
*خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية